لقد كان سليمان عليه السلام نبيا تنويريا.. كان قلبه
يضيء بالهداية الإلهية، وكانت أخلاقه أخلاق الصديقين.. لكنه مع ذلك كان صاحب مدنية
وحضارة لم تصل إليها أرقى حضارات من يدعون التنوير.. فالتنوير لا يجعلك تطفئ
مصابيح مدينتك، وإنما يجعلك تشعل مصابيح قلبك.
وذو القرنين ..
ذلك الحاكم الصالح .. تعلم كل العلوم، وأتقن كل الصنائع، وسار في الأرض، ليخلص
الخلق من كدر العيش وضيقه، ويقف مع المستضعفين ضد الظالمين.. ولكنه لم يكن يهتدي
في ذلك كله إلا بذلك النور الذي امتلأ به قلبه، فأبصر الحقائق كما هي لا كما
تمليها عليه الشياطين.
وهكذا فإن كل
الأنبياء والأولياء .. كان همهم الأكبر أن يشعلوا مصابيح القلوب بأنوار الهداية،
فإذا اهتدت إلى الحقيقة، وتحققت بالإنسانية، واستنارت بنور الله.. كان لها أن تتبع
سنن الله في تحقيق كل مظاهر الرفاه التي لم تنه الشريعة عنها.
وعدم وجود مظاهر
الرفاه، أو تحققها في حياة النبي أو الولي، لا يعني أبدا أنه ليس تنويريا، ولا
منورا، فقد وصف الله تعالى رسول الله a بأنه ليس نورا فقط،
وإنما سراج للأنوار، فقال: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا
وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا
مُنِيرًا (46) } [الأحزاب: 45 - 47] مع أن البداوة كانت غالبة في ذلك الحين..
لكن أنوار
القلوب والعقول التي لا يمكن لأي حضارة أن تقوم بدونها كانت كلها مقتبسة من ذلك
السراج الذي لا يزال يضيء.. بل لن ينطفئ أبدا، كما قال تعالى: {يُرِيدُونَ
لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ
كَرِهَ الْكَافِرُونَ } [الصف: 8]، ثم عقب عليها بقوله: { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ
رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ
كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } [الصف: 9]