واعلموا بعد
هذا أنه لا ينجو من خطر ذلك الميزان الدقيق إلا من حاسب فى الدنيا نفسه ووزن فيها
بميزان الشرع أعماله وأقواله وخطراته ولحظاته، وإنما حسابه لنفسه أن يتوب عن كل
معصية قبل الموت توبة نصوحا، ويتدارك ما فرط من تقصيره فى فرائض الله تعالى، ويرد
المظالم حبة بعد حبة، ويستحل كل من تعرض له بلسانه ويده وسوء ظنه بقلبه وبطيب
قلوبهم حتى يموت ولم يبق عليه مظلمة ولا فريضة.
فمن فعل هذا،
فإنه يدخل الجنة بغير حساب، أما إن سولت له نفسه الأمارة بالسوء فمات قبل رد
المظالم، فإن خصماءه سيحيطون به فهذا يأخذ بيده، وهذا يقبض على ناصيته، وهذا يتعلق
بلببه، هذا يقول ظلمتنى، وهذا يقول شتمتنى، وهذا يقول استهزأت بى، وهذا يقول
ذكرتنى فى الغيبة بما يسوؤنى، وهذا يقول جاورتنى فأسأت جوارى، وهذا يقول عاملتنى
فغششتنى، وهذا يقول بايعتنى فغبنتنى وأخفيت عنى عيب سلعتك، وهذا يقول كذبت فى سعر
متاعك، وهذا يقول رأيتنى محتاجا وكنت غنيا فما أطعمتنى، وهذا يقول وجدتنى مظلوما
وكنت قادرا على دفع الظلم عنى فداهنت الظالم وما راعيتنى.
فبينما أنت
كذلك وقد أنشب الخصماء فيك مخالبهم، وأحكموا فى تلابيبك أيديهم، وأنت مبهوت متحير
من كثرتهم حتى لم يبق فى عمرك أحد عاملته على درهم أو جالسته فى مجلس إلا وقد
استحق عليك مظلمة بغيبة أو خيانة أو نظر بعين استحقار، وقد ضعفت عن مقاومتهم،
ومددت عنق الرجاء إلى سيدك ومولاك لعله يخلصك من أيديهم إذ قرع سمعك نداء الجبار
جل جلاله :﴿ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ
الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)﴾ (غافر)، فعند ذلك ينخلع
قلبك من الهيبة، وتوقن نفسك بالبوار، وتتذكر ما أنذرك الله تعالى على لسان رسوله
حيث قال :﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ
الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)
مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ