أصخت ببصيرتي، فإذا بي أسمعه، وهو يقول: رأس أسباب النجاة
التجافى بالقلب عن دار الغرور، ومواتاة النعم على وفق المراد من غير امتزاج ببلاء
ومصيبة تورث طمأنينة القلب إلى الدنيا وأسبابها، وأنسه بها حتى تصير كالجنة فى
حقه، فيعظم بلاؤه عند الموت بسبب مفارقته، وإذا كثرت عليه المصائب انزعج قلبه عن
الدنيا، ولم يسكن إليها، ولم يأنس بها وصارت سجنا عليه[1]، وكانت نجاته منها غاية اللذة
كالخلاص من السجن.
قلت: البلاء نعمة من هذا الوجه يجب الفرح بها.. ولكن الألم
مع ذلك موجود.
قال: هو ضرورى، وهو يضاهى فرحك عند الحاجة إلى الحجامة بمن
يتولى حجامتك مجانا، أو يسقيك دواء نافعا بشعا مجانا، فإنك تتألم، وتفرح، فتصبر
على الألم وتشكره على سبب الفرح، فكل بلاء فى الأمور الدنيوية مثاله الدواء الذى
يؤلم فى الحال وينفع فى المآل.
قلت: هذا مثال رائع.. وهو يجعل المعنى قريبا إلى الخيال
كقرب الحس.
قال: وعكس ذلك من دخل دار ملك للنظر فيها، وعلم أنه يخرج
منها لا محالة، فرأى وجها حسنا لا يخرج معه من الدار..فإن ذلك وبال عليه وبلاء..
قلت: لم.. فقد رأى حسنا.
قال: لأنه يورثه الأنس بمنزل لا يمكنه المقام فيه، ولو كان
عليه فى المقام خطر من أن يطلع عليه الملك فيعذبه، فأصابه ما يكره حتى نفره عن
المقام كان ذلك نعمة عليه.
وهكذا الدنيا، فهي (منزل وقد دخلها الناس من باب الرحم،
وهم خارجون عنها من باب اللحد، فكل ما يحقق أنسهم بالمنزل فهو بلاء، وكل ما يزعج
قلوبهم عنها ويقطع أنسهم بها فهو نعمة، فمن عرف هذا تصور منه أن يشكر على البلايا
ومن لم يعرف هذه النعم فى البلاء
[1] وفي هذا يقول a:( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)
رواه مسلم.