قلت: لقد تحدث بديع الزمان عما يحدثه البلاء من أنواع
الفاقة والعجز، والتي تقرب المبتلى إلى ربه.
قال: فأصخ سمع بصيرتك إليه.. ألا تعلم أنه من أطباء هذا
المستشفى؟
سمعت صوته، وهو يقول: إن البلايا والضر والأمراض تـجعل
صاحبها يشعر بعجزه وضعفه، فيلتجىء إلى ربه الرحيم، ويتوجه اليه ويلوذ به، فيؤدي
بهذا عبادة خالصة، هذه العبادة خالصة زكية لا يدخل فيها الرياء قط، فإذا ما تجمل
المصاب بالصبر وفكّر في ثواب ضره عند الله وجـميل أجره عنده، وشكر ربه عليها،
تـحولت عندئذ كل ساعة من ساعات عمره كأنها يوم من العبادة، فيغدو عمره القصير جداً
مديداً طويلاً، بل تتـحول - عند بعضهم - كل دقيقة من دقائق عمره بـمثابة يوم من
العبادة.
قلت: فالبلاء إذن ـ يا بديع الزمان ـ مسجد من مساجد
العبودية ومحراب من محاريبها؟
قال: ليس هذا فقط، بل هناك حكم أجل يبرزها فقر الإنسان،
لها علاقة بالعرفان.
قلت: أفقر الإنسان يعرفه بالله؟
قال: بل يوصله إليه.
قلت: كيف ذلك؟
قال: (ان الله سبحانه قد أدرج في الانسان عجزاً لا حد له،
وفقراً لانهاية له، إظهاراً لقدرته الـمطلقة وإبرازاً لرحمته الواسعة. وقد خلقه
على صورة معينة بـحيث يتألم بما لا يحصى من الجهات، كما أنه يتلذذ بما لا يعد من
الجهات، إظهاراً للنقوش الكثيرة لأسمائه الحسنى. فابدعه سبـحانه على صورة ماكنة
عجيبة تـحوي مئات الآلات والدواليب، لكل منها آلامها ولذائذها ومهمتها وثوابها
وجزاؤها، فكأن الاسماء الإلـهية المتجلية في العالم الذي هو إنسان كبير تتجلى
أكثرها أيضاً في هذا الانسان الذي هو عالم أصغر، وكما أن ما فيه من أمور نافعة -
كالصحة والعافية واللذائذ وغيرها - تدفعه الى الشكر وتسوق تلك الـماكنة الى القيام