فسلمت عليهما فما أجاباني، فسلمت ثانية وثالثة فلم
أسمع الجواب، فقلت: نشدتكما بالله إلا رددتما عليّ السلام فرفع الشاب رأسه من
مرقعته فنظر إلي وقال: يا ابن خفيف الدنيا قليل وما بقي من القليل إلا القليل فخذ
من القليل الكثير، يا ابن خفيف، ما أقل شغلك حتى تتفرّغ إلى لقائنا؛ قال: فأخذ
بكليتي ثم طأطأ رأسه في المكان فبقيت عندهما حتى صلينا الظهر والعصر فذهب جوعي
وعطشي وعنائي، فلما كان وقت العصر قلت: عظني فرفع رأسه إليَّ وقال: يا ابن خفيف
نحن أصحاب المصائب ليس لنا لسان العظة، فبقيت عندهما ثلاثة أيام لا آكل ولا أشرب
ولا أنام ولا رأيتهما أكلا شيئاً ولا شربا، فلما كان اليوم الثالث قلت في سري:
أحلفهما أن يعظاني لعلي أن أنتفع بعظتهما، فرفع الشاب رأسه وقال لي: يا ابن خفيف
عليك بصحبة من يذكرك الله رؤيته وتقع هيبته على قلبك، يعظك بلسا ولا يعظك بلسان
قوله، والسلام؛ قم عنا.
مراقبة الورعين:
قلنا: وعينا
هذا.. وما أشرفها من رتبة.. ولكنا لا نجد نفوسنا نطيقها.. فحدثنا عما هو دونها.
قال: الدرجة
الثانية هي درجة الورعين، والذين سماهم القرآن الكريم (أصحاب اليمين)، كما في قوله
تعالى :﴿ وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27)﴾
(الواقعة)؛ وهم قوم غلب يقين اطلاع الله على ظاهرهم وباطنهم وعلى قلوبهم، ولكن لم
تدهشهم ملاحظة الجلال، بل بقيت قلوبهم على حدّ الاعتدال متسعة للتلفت إلى الأحوال
والأعمال، إلا أنها مع ممارسة الأعمال لا تخلو عن المراقبة.
نعم غلب
عليهم الحياء من الله فلا يقدمون ولا يحجمون إلا بعد التثبت فيه، ويمتنعون عن كل
ما يفتضحون به في القيامة فإنهم يرون الله في الدنيا مطلعاً عليهم فلا يحتاجون إلى
انتظار القيامة.