لقد حدث ابن عباس أن ضمادًا قدم مكة وكان من أزد
شنوءة وكان يرقي من هذه الريح، فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون: إن محمدا مجنون،
فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي، قال: فلقيه فقال: يا محمد:
إني أرقي من هذه الريح، وإن الله يشفي على يدي من شاء فهل لك؟ فقال رسول a:(إن الحمد لله نحمده ونستعينه،
من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده
لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، أما بعد..)، قال: فقال أعد كلماتك هؤلاء،
فأعادهن عليه رسول الله a ثلاث مرات، فقال: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء،
فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن قاموس[1]البحر، قال: فقال: هات يدك
أبايعك على الإسلام، قال: فبايعه، فقال رسول الله a:(وعلى قومك)، قال: وعلى قومي[2].
انظر هذا الرجل كيف اكتفى من رسول الله a بتلك الكلمات الممتلئة بفيوضات الحكمة..
اكتفى بها من غير جدل، ولا مراء، ولا خصومة.. وقد عرف النبي a ما تنطوي عليه نفسه من خير، فلذلك بايعه
على أن يدعو قومه لله.
وهكذا في دعوته a
لرجل لم يحفظ التاريخ اسمه، ولكنه حفظ لنا حكمته، والأسلوب الذي خاطبه به رسول
الله a.. فعن حرب بن سُريج قال: حدثني
رجل من بلْعَدَوِيَّة، قال: حدثني جدِّي قال: انطلقت إلى المدينة فنزلت عند
الوادي، فإذا رجلان بينهما عنز واحدة وإِذا المشتري يقول للبائع؛ أحسن مبايعتي،
قال: فقلت في نفسي: هذا الهاشمي الذي قد أضلَّ الناس أهو هو؟ قال: فنظرت فإذا رجل
حسن الجسم عظيم الجبهة، دقيق الأنف، دقيق الحاجبين، وإذا من ثُعْرة نحره إلى
سُرّته مثل الخيط الأسود شعر أسود، وإِذ هو بين طِمْرين قال: فدنا منا فقال:
السلام عليكم، فرددنا عليه، فلم ألبث أن دعا المشتري فقال: يا رسول الله،
[1] قاموس البحر: هو وسطه ولجته (النهاية في غريب الحديث
والأثر: 5 / 81)