قال: وسحنون لا يقول إلا بهذا.. لقد ذكر
لي عن بعض شيوخه قوله:(إنما الفقه الرخصة من ثقة، أما التشديد فيحسنه كل أحد)
قلت: قد يكون في المفتي كل ما ذكرت..
ولكنه لا يكون صاحب بصيرة يعرف بها الواقع، فلذلك يخطئ في تطبيقه الأحكام.
قال: كلهم قد يقع في هذا إلا سحنون.. فهو
ملم بالواقع محيط
به.. بل لم أره يجيب عن مسألة إلا بعد أن يحيط بكل ما يرتبط بها علما.. لقد سمعته مرات كثيرة يقول:
(أجراً للناس على الفتيا، أقلّهم علماً. يكون عند الرجل باب واحد من العلم، فيظن
أن الحق كله فيه)
وسمعته يقول:(إني لأسأل عن المسألة، فأعرف في أي كتاب وورقة
وصفحة وسطر، فما يمنعني عن الجواب فيها إلا كراهة الجرأة بعدي على الفتيا)
وقد قلت له مرة: تأتيك المسائل مشهورة مفهومة، فتأبى الجواب
فيها. فقال:(سرعة الجواب بالصواب أشد فتنة من فتنة المال)
***
ما وصلنا من حديثنا إلى هذا الموضع حتى بلغنا أعرق مسجد
بالقيروان، وهو المسجد الذي كان منارة للعلم والهدى قرونا طوالا..
دخلت ـ مع صاحبي ـ من بابه الواسع، فرأيت رجلا ربع القامة، بين
البياض والسمرة، حسن اللحية، كثير الشعر، أعين، بعيد ما بين المنكبين، حسن اللباس[1].
رأيته يجلس على منصة عالية.. وعلى منصة على يمينه جلس رجال
عليهم سمت العلماء، وعلى منصة على يساره جلس ناس من العامة..
أشار صاحبي إليه، وقال: هذا هو سحنون.. فهيا بنا.. ولا تنسى أن تتأدب
بين يديه..
[1] هذه
صفة سحنون كما في كتاب (المدارك) نقلا عن أبي العرب.