وكان يديم الصيام حتى يظن من حوله أنه سيصوم الدهر كله، وأحيانا
يواصل الليل بالنهار في الصيام، فيمضي يومين أو أكثر لا يتناول طعاما، بعد الغروب،
وهو ما نهى عنه أصحابه ولهذا قالوا له: أتنهانا عن الوصال وتواصل؟ فقال:(وأيكم
مثلي؟ إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني)[1]
وكان دائم الذكر لله تعالى في كل أحواله، وعلى كل أحيانه، بقلبه
ولسانه.
ومع ذلك كله كان دائم الخشية له سبحانه، كثير الاستغفار، كثير
التوبة، وهذا من كمال عبوديته، وعظم مقام الألوهية عنده، وفي هذا كان يقول:(إنه
ليغان على قلبي، وإني لاستغفر الله في اليوم مائة مرة)[2]، وكان يقول:(يا أيها الناس توبوا
إلى ربكم، فإني أتوب إلى الله عز وجل في اليوم مائة مرة)[3]
وكان مع هذا أزهد الناس في الدنيا، وأرضاهم باليسير منها، مع ما
فتح الله له من الفتوح، وأفاء عليه من الغنائم، ولكنه لقي ربه ولم يشبع من خبر
الشعير ثلاثة أيام متوالية، وكان الشهر يمر تلو الشهر ولا يوقد في بيته نار، إنما
عيشه على الأسودين: التمر والماء.. وكان ينام على الحصير حتى يؤثر في جنبيه.. ورآه
عمر بن الخطاب يوما كذلك، فبكى توجعا له وإشفاقا عليه، واقترح عليه بعضهم أن
يهيئوا له فراشا ألين من هذا، فقال لهم:(ما لي وللدنيا؟ ما مثلي ومثل الدنيا إلا
كراكب سار في يوم صائف، فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار، ثم راح وتركها)[4]