عندما لاح لجدي أبي حامد أن ينتقد الفلسفة اليونانية، وما كانت تحمله
من أنواع الضلال، لم يكتف بأن يكتب قصيدة أو خطبة يملؤها سبابا وشتائم.. وإنما راح
لكتب الفلسفة يقرؤها بتمعن وتمحيص وتدقيق..
لقد ذكر سر ذلك، فقال:(ثم إني ابتدأت - بعد الفراغ من علم الكلام -
بعلم الفلسفة، وعلمت يقيناً: أنه لا يقف على فساد نوع من العلوم، من لا يقف على
منتهى ذلك العلم، حتى يساوي أعلمهم في أصل ذلك العلم، ثم يزيد عليه، ويجاوز درجته
فيطلع على ما لم يطلع عليه صاحب العلم، من غوره وغائله، وإذا ذاك يمكن أن يكون ما
يدعيه من فساده حقاً، ولم أر أحداً من علماء الإسلام صرف عنايته وهمته إلى ذلك،
ولم يكن في كتب المتكلمين من كلامهم ـ حيث اشتغلوا بالرد عليهم ـ إلا كلمات معقدة
مبددة ظاهرة التناقض والفساد، لا يظن الاغترار بها بعاقل عامي، فضلاً عمن يدعي
دقائق العلم، فعلمت أن رد المذهب قبل فهمه والإطلاع على كنه رمى في عماية.
فشمرت عن ساق الجد في تحصيل ذلك العلم من الكتب، بمجرد المطالعة من
غير استعانة بأستاذ، وأقبلت على ذلك في أوقات فراغي من التصنيف والتدريس في العلوم
الشرعية، وأنا ممنو بالتدريس والإفادة لثلاثمائة نفس من الطلبة ببغداد، فأطلعني
الله سبحانه وتعالى بمجرد المطالعة في هذه الأوقات المختلسة، على منتهى علومهم في
أقل من سنتين، ثم لم أزل أواظب على التفكر فيه بعد فهمه قريباً من سنة أعاوده
وأردده وأتفقد غوائله وأغواره، حتى اطَّلعت على ما فيه من خداع، وتلبيس وتحقيق
وتخييل، واطلاعاً لم أشك فيه)[1]
وهكذا.. فلا ينبغي لمن يريد محاورة أي جهة من الجهات إلا أن يكون له
القدرة على