سكت الرجل، فقال سليمان: لا حرج عليك.. لقد مر في ذهني قبلك هذا
السؤال.. لكني لم أستسلم لما يقتضيه مني، فأكتفي بما وصلت إليه.. بل رحت أبحث في
حقيقة الخير والشر.. وهل الشر مقصود في الخلق أم أنه عارض فيه[1].
قال الرجل: فماذا وجدت؟
قال: لقد وجدت أنه لا يوجد شيء في الدنيا يصح أن يُطلَق عليه
اسم الشرّ؛ فالنار لا شك أنها تحرق، ولكن الإحراق في نفسه لا يُعَدّ خيرًا، ولا
يُسَمَّى شرًّا؛ فإن أوقدتَها لتُنضج عليها غذاءك، أو لتقتبس منها قبسًا تَصطلي به
من البَرد؛ فإن عملك هذا هو الَّذِي يُعَدّ إحسانًا ويُطلَق عليه اسم الخير.. وإذا
أضرمتَ النار لتحرق مأوًى يأوي إليه فقير بائس لم يرتكب ذنبًا؛ فإن عملك هذا هو
الَّذِي يُعَدّ سيئة وشرًّا، بينما النار نفسها ليست بنفسها خيرًا محضًا لا شرّ
فيه، أو شرًّا محضًا لا خير فيه، وأنتَ الَّذِي جعلتَها بعملك خيرًا أو شرًّا.
وهكذا السيف القاطع لا يُعَدّ خيرًا ولا شرًّا؛ بل أنتَ الَّذِي
تتخذ منه ذريعة للخير أو الشرّ.
والظلام لا يُعَدّ شرًّا؛ لكنك إن تستَّرتَ به في جوف الليل
لترتكب فيه السوء؛ فالشرّ هو عملك لا الظلام، وإن تواريتَ فيه لتعملَ صالِـحًا، أو
أويتَ فيه إلَى الراحة والدّعة؛ فهو خير.
وقد خَلَقَ الله الأرض والسماء وبث فيها ما شاء من نعمه، ثم خلق
الإنسان؛ ووهبه الحكمة البالغة والبصيرة النافذة والآراء السديدة؛ فنظر هذا
المخلوق في الكون، وتأمّل حُسن تقويمه، وعجيب تنسيقه، وبديع نظامه؛ فمَلَكَه
الإعجاب به، وملأ نفسه الاستغراب منه؛ فلم يتمالك أن انطلق لسانه قائلًا: ﴿
فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ المؤمنون: 14)، ثم نادَى في
خشوع وخضوع لرب العالمين: ﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً
[1] انظر تفاصيل هذه المسألة في رسالة (أسرار الأقدار)