قال: لقد رأيت في مسيرة بحثي عن شريعة الحق أن القانون
الوضعي كان ـ حتى آخر القرن الثامن عشر[1] ـ يميز بين الأفراد، ولا يعترف
بالمساواة بين المحكومين، وكان يميز بينهم في المحاكمة وفي توقيع العقوبة، وفي
تنفيذ العقوبة، وكانت المحاكم تتعدد تبعاً لتعدد طوائف الأمة، فللأشراف محاكم خاصة
وقضاة من طبقة معينة، ولرجال الدين محاكم خاصة وللجمهور محاكم خاصة، ولكل من هاتين
الطائفتين قضاتهم. وكانت الجريمة الواحدة يعاقب عليها أمام هذه المحاكم المختلفة
بعقوبات مختلفة، وكان لشخصية الجاني اعتبارها في القانون، فالعمل الذي يأتيه
الشريف ويعاقب عليه بأتفه العقوبات يعاقب عليه الشخص العادي إذا أتاه بأقصى
العقوبات، وكانت العقوبة تنفذ على الشريف بطريقة تتفق مع شرفه، ولكنها تنفذ على
رجل الشارع بطريقة تتفق مع ضعته وحطته؛ فإذا حكم بالإعدام مثلاً على شريف ووضيع
ضربت رقبة الشريف بالسيف، وشنق الوضيع في حبل كما تشنق الكلاب، وكانت بعض الأفعال
تعتبر جرائم إذا أتاها العامة يحاسبون عليها أشد الحساب، بينما يأتيها الأشراف
ورجال الدين في كل وقت فلا يحاسبون عليها ولا يحاكمون عنها.
لقد بقي هذا شأن القانون الجنائي الوضعي حتى أواخر القرن
الثامن عشر، حتى جاءت
[1] انظر: التشريع الجنائي في
الإسلام لعبد القادر عودة.