محلا متوجها توجها
كليا إلى الجمال الخالد الثابت الكامل.. فلذلك تجده يطلبه في كل محل، ويبحث عنه في
كل مرآة..
قلت: ولكن لم يرضى
بالجمال الزائل المتزعزع الناقص؟
قال: الغفلة ووساوس
الشياطين.. وما يلقنه إياه رجال بني عذرة.
قلت: تقصد قومي؟
قال: أجل.. وفي البشر مثلهم
كثير.. إنهم رجال صرفوا تلك اللطيفة من عالم القدس إلى عالم الدنس.. فصار الإنسان
عبدا للإنسان.. وتمرغ عقل الإنسان السماوي وكرامة الإنسان السماوي في أوحال الطين.
قلت: ولكن القلب يجد
بعض اللذة في ذلك؟
قال: إنها لذة لا
تختلف عن لذة الخمرة[1].. ألم تسمع شعراءكم
وهم يرددون:
[1]
نجد بعض العارفين يعبرون عن المحبة بالسكر، وهو من باب المشاكلة لا من باب
الحقيقة، والأولى ترك مثل هذه التعابير لما توحي به من معان قد تفهم فهما خاطئا..
وقد اشتد ابن القيم في رده لمثل هذا، فقال: ( وهذا المعنى (أي سقوط التمالك في
الطرب الناشئ عن المحبة) لم يعبر عنه في القرآن ولا في السنة ولا العارفون من
السلف بالسكر أصلا، وإنما ذلك من اصطلاح المتأخرين، وهو بئس الاصطلاح، فإن لفظ
السكر والمسكر من الألفاظ المذمومة شرعا وعقلا، وعامة ما يستعمل في السكر المذموم
الذي يمقته الله ورسوله قال الله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ
﴾ (النساء: من الآية43)، وعبر به سبحانه عن الهول الشديد الذي يحصل للناس
عند قيام الساعة فقال تعالى :﴿ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ
عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ
سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾
(الحج:2)، ويقال: فلان أسكره حب الدنيا، وكذلك يستعمل في سكر الهوى المذموم.. فأين
أطلق الله سبحانه أو رسوله أو الصحابة أو أئمة الطريق المتقدمون على هذا المعنى
الشريف الذي هو من أشرف أحوال محبيه وعابديه اسم السكر المستعمل في سكر الخمر وسكر
الفواحش كما قال عن قوم لوط لعمرك:﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي
سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ (الحجر:72)، فوصف بالسكر أرباب الفواحش وأرباب
الشراب المسكر، فلا يليق استعماله في أشرف الأحوال والمقامات ولا سيما في قسم
الحقائق ولا يطلق على كليم الرحمن اسما يسمى سكرا)
ثم أشار إلى أن
الإنكار متوجه للألفاظ دون المعاني، فقال :( ونحن لا ننكر المعنى المشار إليه بهذا
الاسم، وإنما المنكر تسميته بهذا الاسم، ولا سيما إذا انضاف إلى ذلك اسم الشراب،
أو تسمية المعارف بالخمر، والواردات بالكؤوس، والله جل جلاله بالساقي فهذه
الاستعارات والتسمية هي التي فتحت هذا الباب) (انظر: مدارج السالكين:3/306 )
ونحن مع تسليمنا
لما ذكره ابن القيم، إلا أنه لا ينبغي المبالغة في إنكار ما ذكره الصالحون بسبب
هذه الألفاظ، فهو لم يذكر إلا على سبيل المشاكلة.. وكأنهم يقولون للمنتشي بنشوة
الخمر، أو نشوة الحب الموهوم: دع عنك ما أنت فيه، وتعال للخمر الحقيقية التي لا
تعدل نشوتها أي نشوة، ولا لذتها أي لذة.