وهكذا كان (صلیاللهعلیهوآلهوسلم) في تبليغه رسالة ربه .. فقد كان لا يرتاح لحظة واحدة دون تبليغها
حتى أنه سافر إلى الطائف التي تبعد عن مكةَ المكرَّمةِ أكثر من خمسة وثمانين كيلو
مترًا .. وسار إليها على قدمَيْه الشريفتين.. وبمجرد أن وصل إليها، ردوا عليه
ردًّا منكَرًا، وسَخِروا منه واستهزؤوا به؛ بل قال له أحدهم: هو يَمْرُط (أي:
أُمَزِّق) ثيابَ الكعبة إنْ كان الله أرسلَك. وقال الآخَر: أمَا وجَدَ الله أحدًا
يرسله غيرك؟ وقال الثَّالث: والله لا أكلِّمك أبدًا، لئن كنتَ رسولاً من الله كما
تقول، لأنتَ أعظمُ خطرًا من أن أردَّ عليك الكلام، ولئن كنتَ تكذب على الله ما
ينبغي لي أن أكلِّمك!.
وفوق ذلك كله أغروا به الصِّبيان والعبيد والسُّفهاء، ووقفوا صفَّيْن،
وأخذوا يرمونه بالحجارة، ويسخرون منه، ويسبُّونه بأقبح السباب والشتائم، حتَّى
إنَّه (صلیاللهعلیهوآلهوسلم) كان لا يرفع قدَمًا، ولا
يضعها إلاَّ على الحجارة، وسالت الدِّماء من قدَميْه الشريفتين.
ولكنه (صلیاللهعلیهوآلهوسلم) بعد ذلك كله، لم يتأثر، ولم ينفعل، ولم يدعو عليهم، بل دعا لهم،
وقد ورد في الحديث أن عائشة سألته (صلیاللهعلیهوآلهوسلم): هل أتى عليك يومٌ كان أشدَّ من يوم أحُدٍ؟ قال: (لقَد لقيتُ من
قومِك، وكان أشدَّ ما لقيتُ منهم يوم العقبة، إذْ عرَضْتُ نفسي على ابن عبد ياليلَ
بن عبد كلالٍ، فلم يُجِبْني إلى ما أردتُ، فانطلقتُ وأنا مهمومٌ على وجهي، فلم
أستفق إلاَّ وأنا بقرن الثَّعالب، فرفعتُ رأسي، وإذا أنا بسحابةٍ قد أظلَّتْني،
فنظرتُ فإذا فيها جبريل عليه السَّلام فناداني، فقال: إنَّ الله تعالى قد سمع قول
قومك لك، وما ردُّوا عليك، وقد بعث إليك ملَك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فناداني
ملكُ الجبال، فسلَّم عليَّ، ثمَّ قال: يا محمَّد، إنَّ الله قد سمع قول قومك لك،
وأنا ملَكُ الجبال، وقد بعثني ربِّي إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت؛ إن شئتَ أطبقتُ
عليهم الأخشبَيْن، فقال النبِيُّ (صلیاللهعلیهوآلهوسلم): (بل أرجو أن يُخْرِج الله من أصلابهم مَن