الباب الأول في الحكايات المستطرفة والأخبار المستظرفة
كان الحجاج قد استعمل مالك بن أسماء بن خارجة، على الجزيرة، وكانت أخته هند تحت الحجاج، فبلغه عنه شيء، فعزله، وبعث إلى أهل الجزيرة، وأمرهم أن يقولوا: ظلمنا، وأخذ أموالنا، فقال بعضهم لبعض: حتى الأمير يغضب عليه اليوم، ويرضى غداً، لا تتعرضوا لذلك، ولما دخلوا على الحجاج، قدموا شيخاً لهم، فسأله الحجاج عن سيرته فيهم، فأثنى عليه الشيخ خيراً، فأمر به الحجاج فضرب مائة سوط، فقال الباقون: كذب الشيخ، بل كان يظلمنا ويأخذ أموالنا فقال مالك: أيها الأمير، مثلي ومثلك، قال: قل، فقال: زعموا أنه كان أسد وذئب وثعلب، اشتركت مرة فيما تصيد، فصادت حمار وحش، وظبياً، وأرنباً، فقال الأسد للذئب: اقسم بيننا واعدل، فقال الذئب: لك الحمار، ولي الظبي، وللثعلب الأرنب، فضربه الأسد، وقطع رأسه، ووضعه بين يديه، وقال للثعلب: اقسم بيننا واعدل، فقال: الحمار لك تتغدى به، والظبي تتعشى به، والأرنب تتفكه بها فيما بين الغداء والعشاء، قال الأسد: ما أعدلك في القسمة، من علمك هذا؟ قال: الرأس الذي بين يديك، فضحك الحجاج، ورده إلى موضعه.
وصعد خالد بن عبد الله القسري منبر مكة يوم الجمعة، وهو أمير الوليد بن عبد الملك، فأثنى على الحجاج خيراً، فلما كان في الجمعة الثانية، وقد مات الوليد، ورد عليه كتاب سليمان، فأمر بشتم الحجاج، وذكر عيوبه، وإظهار البراءة منه، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن إبليس كان يظهر من طاعة الله عز وجل، ما كانت الملائكة ترى به فضلاً، وكان الله قد علم من غشه، ما كانت الملائكة قد خفي عنها، فلما أراد الله فضيحته ابتلاه السجود لآدم، فظهر لهم ما كان يخفيه عنهم، فلعنوه، وإن الحجاج كان يظهر من طاعة أمير المؤمنين ما كنا نرى له فضلاً، وكان الله قد أطلع أمير المؤمنين على غله وغشه، على خلاف ما أخفي عنا، فلما أراد الله فضيحته، أجرى الله ذلك على يدي أمير المؤمنين، فالعنوه، لعنه الله، ثم نزل.
ومر غيلان بن خرشة الضبي مع عبد الله بن عامر، بنهر أم عبد الله الذي يشق البصرة، فقال عبد الله: ما أصلح هذا النهر لأهل البصرة، فقال غيلان: أجل، يا أمير المؤمنين، يتعلم العوم فيه صبيانهم، ويكون لسقيهم، ويأتيهم بميرهم، ثم عاد غيلان، فساير زياداً عليه، فقال زياد: ما أضر هذا النهر لأهل هذا المصر، فقال غيلان: أجل يا أمير المؤمنين، تتهدم به دورهم، وتغرق به صبيانهم، وتكثر لأجله بعوضهم.
ويحكى أن حاتماً نزل به أعرابي، فبات عنده جائعاً، فلما كان في السحر ركب وانصرف، فتقدمه حاتم، فلما خرج من بيت البيوت لقيه حاتم متنكراً، فقال له: أين كان بيتك البارحة؟ فقال: عند حاتم، فقال: فكيف كان؟ فقال: خير مبيت، نحر لي ناقة، فأطعمني اللحم، وسقاني الخمر، وعلف راحلتي، وسرت من عنده بخير حال، فقال له: أنا حاتم، والله، لا تبرح حتى ترى ما وصفت، فرده، وقال له: ما حملك على الكذب؟ فقال له الأعرابي: إن الناس كلهم يثنون عليك بالجود، فلو قلت شراً، لكذبوني، فرجعت مضطراً إلى قولهم؛ إبقاء على نفسي، لا عليك.
وأمر الوليد بن يزيد بحمل ابن شراعة من الكوفة، فلما قدم عليه قال: يا ابن شراعة، والله، ما أرسلت من الكوفة إليك؛ لأسألك عن كتاب الله، وسنة نبيه، قال: يا أمير المؤمنين، لو سألتني عنهما لوجدتني حماراً، قال: أرسلت إليك؛ لأسألك عن الفتوة، قال: أنا دهقانها الحكيم، وطبيها العليم فسل عما بدا لك، قال: أخبرني عن الماء، قال: لابد لي منه، والكلب والجمل يشاركاني فيه، قال: فما تقول في اللبن؟ قال: ما رأيته إلا استحيت من أمي لطول ما أرضعتني إياه، قال: فالسويق؟ قال: شراب المحرور، والمسافر العجلان، قال: فنبيذ الزبيب؟ قال: مرعى، ولا كالسعدان، قال: فنبيذ التمر؟ قال: سريع الامتلاء، سريع الانفشاش، ضراط كله، قال: فما تقول في الخمر؟ قال: تلك صديقة روحي، جلت عن المثل، تلك التي تزيد الدم إشراقاً، قال: وأنت يا ابن شراعة صديقي، إجلس، أي الطعام أحب إليك؟ قال: يا أمير المؤمنين، ليس لصاحب الشراب على الطعام حكم، غير أن أنفعه أدسمه.