ونظر خالد بن صفوان إلى جماعة في مسجد البصرة، فقال: ما هذه الجماعة؟ قالوا: على امرأة تدل على النساء، فأتاها، فقال لها: ابقني امرأة، قالت: صفها، قال: أريدها بكراً كثيب، أو ثيباً كبكر، حلوة من قريب، ضخمة من بعيد، كانت في نعمة فأصابها فاقة، فيها أدب النعمة، وذل الحاجة، إذا اجتمعنا كنا أهل دنيا، وإذا افترقنا كنا أهل آخرة، قالت قد أصبتها لك، قال: وأين هي؟ قالت: في الرفيق الأعلى من الجنة فاعمل لها.
وأتى الحطيئة رجل، وهو في غنمه، فقال: يا صاحب الغنم سلام عليكم، فرفع العصا، وقال: هذه لمن سلم، فقال الرجل: إني ضيف، فقال: للضيفان أعددتها، فأعاد السلام، فقال: إن شئت قمت بها إليك.
ومر به ابن حمامة، وهو جالس في فناء بيته، فقال: السلام عليكم، فقال: قد قلت ما لا ينكر، قال: خرجت من أهلي بغير زاد قال: ضمنت لأهلك قراك، قال: أفتأذن لي أن آتي ظل بيتك؟ قال: دونك الجبل يقيك ظله، قال: أنا ابن الحمامة، قال: انصرف، وكن ابن أي طائر شئت.
ونزل الغضبان القبعثري خارج كرمان، وهي كثيرة الرمضاء فضرب قبته، فورد عليه أعرابي، فقال: السلام عليكم، فقال: هي كلمة معقولة، قال الأعرابي: ما اسمك؟ قال: آخذ، قال: أو تعطي؟ قال: ما أحب أن يكون لي اسمان، قال: ومن أين جئت؟ قال: من الدلول، قال: وأين تريد؟ قال: أرضاً أمشي في مناكبها، قال: ومن عرض؟ قال: آل فرعون على النار، قال: ومن بشر؟ قال: الصابرون، قال: فمن غلب؟ قال: حزب الله، قال: أفتسمع؟ قال: إنما تسمع القينة، قال: أفتقول؟ قال: إنما يقول الأمير قال: أفتسجع؟ قال: إنما تسجع الحمامة، قال: أفتنطق؟ قال: كتاب الله ينطق، قال: إنك لمنكر، قال: إني لمعروف، قال: ذلك أريد، قال: وما إرادتك؟ قال: الدخول إليك، قال: وراءك أوسع لك، قال: قد ضرتني الشمس، قال: الساعة يأتيك الفيء، قال: الرمضاء أحرقت قدمي، قال: بل عليهما يبردان، قال: أوجعني الحر، قال: ليس لي عليه من سلطان، قال: إني لا أريد طعامك ولا شرابك، قال: لا تعرض بهما فوالله ما تذوقهما، قال: سبحان الله، قال: قبل كونك، قال: ما عندك؟ قال: هراوة أدق بها رأسك.
وأمر عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بعقوبة رجل، فقال له رجاء بن حيوة: إن الله قد فعل ما تحب من الظفر، فافعل ما يحب من العفو، فعفا عنه.
وقال العتبي: وقعت ماء بين حييين من قريش، فأقبل أبو سفيان، فما بقي أحد واضع رأسه إلا رفعه، فقال: يا معشر قريش، هل لكم في الحق أو فيما هو أفضل من الحق؟ قالوا: وهل شيء أفضل من الحق؟ قال: نعم، العفو، فتبادر القوم واصطلحوا.
ويروى أن نصيباً وفد على عبد الملك بن مروان، وأنشده، فاستحسن شعره، ووصله، فجاء بالطعام فأكل معه، فقال له عبد الملك: هل لك فيما يتنادم عليه، فقال: يا أمير المؤمنين تأملني قال: فإني أراك، قال: يا أمير المؤمنين الجلد أسود، والوجه قبيح، ولست في منصب كريم، وإنما بلغ بي مجالستك ومواكلتك عقلي، وأنا أكره أن أدخل عليه ما يحول بيني وبينه، فأعجب عبد الملك كلامه وأعفاه.
وأنشد يوماً هشاماً قصيدة مدحه بها، فقال له هشام: يا أسود، قد بلغت المدح فسلني أعطك، فقال: يداك يا أمير المؤمنين بالعطية أطول من لساني بالمسألة، فقال هشام: هذا والله أجزل من الشعر وأجازه جائزة عظيمة.
وقال دعبل لمخنث: والله لأهجونك، فقال: إن هجوتني لأخرجن أمك من اللعبة.
ورفع إلى الأمير أن أبا نواس زنديق، وأنشد من شعره ما يستدل به على ذلك، فأمر بإحضاره، ولما حضر أمر بقتله، فقال: ما ذنبي يا أمير المؤمنين؟ قال: عرفت أنك زنديق قال: وما قلت؟ وما ظهر علي من ذلك؟ قال: قولك:
ألا فاسقني خمراً، وقل لي هي الخمر ... ولا تسقني سراً إذا أمكن الجهر
قال يا أمير المؤمنين أفسقاني؟ قال: كذلك أظن، قال: أتقتلني على ظن؟ وقد قال ما تعالى: (إن بعض الظن إثم) قال: فأنت الذي تقول:
ما جاءنا أحد يخبر أنه ... في جنة مذ مات أو في نار
قال: أفجاء أحد يا أمير المؤمنين؟ قال: لا، قال: أفتقتلني على الصدق؟ قال: أنت الذي تقول:
يا أحمد المرتجى في كل نائبة ... قم سيدي نعص جبار السماوات
قال: أفقام يا أمير المؤمنين؟ قال: لا أدري، قال: أفتقتلني على أن لا تدري؟ قال: أطلقوه، ولو وجب عليه القتل.