نام کتاب : تاريخ الإسلام - ت بشار نویسنده : الذهبي، شمس الدين جلد : 5 صفحه : 1063
-فصل في ذِكْر مرضه رحمه اللَّه
قال ابنه عبد الله: سَمِعتُ أبي يقول: استكملت سَبْعا وسبعين سنة، ودخلت في ثمان وسبعين سنة فَحُمَّ من ليلته، ومات يوم العاشر.
وقال صالح: لمّا كان فِي أوّل يوم من ربيع الأوّل من سنة إحدى وأربعين ومائتين حُمَّ أبي ليلة الأربعاء، وبات وهو محموم يتنفس تنفسا شديدًا، وكنتُ قد عرفتُ علته. وكنتُ أمرّضُه إذا اعتلّ. فقلت له: يا أبه، على ما أفطرتَ البارحة؟ قال: على ماء باقلاء. ثُمَّ أراد القيام فقال: خُذْ بيدي. فأخذت بيده، فلما صار إلى الخلاء ضعفت رِجلاه حَتَّى توكّأ علي. وكان يختلف إليه غير متطبب، كلهم مسلمون، فوصف له متطبّب قرعة تشوى ويسقى ماءها، وهذا -[1064]- يوم الثلاثاء فتوفي يوم الجمعة، فقال: يا صالح، قلت: لَبَّيْك، قال: لا تُشْوى فِي منزلك ولا فِي منزل أخيك. وصار الفتح بْن سهل إلى الباب ليعوده فحجبته، وأتى ابن علي بن الجعد فحجبته، وكثُر النّاس، فقال: أي شيء ترى؟ قلت: تأذن لهم فيدعون لك. قال: أستخير اللَّه تعالى، فجعلوا يدخلون عليه أفواجًا حَتَّى تمتلئ الدّار، فيسألونه ويدعون له ثُمَّ يخرجون، ويدخل فوج آخر. وكثر الناس، وامتلأ الشّارع، وأغلقنا باب الزقاق، وجاء رَجُل من جيراننا قد خضب، فقال أبي: إني لأرى الرجل يحيى شيئا من السنة فأفرح به. وكان له فِي خُرَيْقة قُطَيْعات، فإذا أراد الشّيء أعطينا مَن يشتري له. وقال لي يوم الثّلاثاء: أنظر فِي خُرَيقتي شيء. فنظرتُ، فإذا فيها دراهم، فقال: وجّه اقتضِ بعض السُّكّان. فوجّهتُ فأعطيت شيئًا، فقال: وجّه فاشتر تمرًا وكفّر عنّي كفّارة يمين، وبقي ثلاثة دراهم أو نحو ذلك، فأخبرته فقال: الحمد لله. وقال: اقرأ عليّ الوصيّة. فقرأتها عليه فأقَرَّها. وكنتُ أنام إلى جنْبه، فإذا أراد حاجة حرّكني فأناوله. وجعل يحرّك لسانَه ولم يئن إلا فِي اللّيلة التي تُوُفّي فيها. ولم يزل يصلّي قائمًا أَمْسكه فيركع ويسجد، وأرفعه فِي ركوعه. واجتَمَعَتْ عليه أوجاع الحصْر وغير ذلك، ولم يزل عقله ثابتًا، فلمّا كان يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خَلَت من ربيع الأول لساعتين من النّهار تُوُفّي.
وقال المَرُّوذيّ: مرض أبو عبد الله ليلة الأربعاء لليلتين خَلَتا من ربيع الأول، مرض تسعة أيّام، وكان رُبّما أذن للنّاس، فيدخلون عليه أفواجًا يُسلّمون عليه، ويردّ عليهم بيده.
وتَسَامَعَ الناس وكثروا، وسمع السلطان بكثرة الناس، فوكل السلطان ببابه وبباب الزُّقاق الرابطة وأصحاب الأخبار. ثُمَّ أغلق باب الزقاق، فكان النّاس فِي الشّوارع والمساجد، حَتَّى تعطل بعض الباعة، وحيل بينهم وبين الباعة والشراء. وكان الرجل إذا أراد أن يدخل إليه ربّما دخل من بعض الدُّور وطُرُز الحاكة، وربّما تسلّق. وجاء أصحاب الأخبار فقعدوا على الأبواب. وجاءه حاجب ابن طاهر فقال: إنّ الأمير يُقرئك السّلام وهو يشتهي أن يراك. فقال: هذا ممّا أكره، وأمير المؤمنين أعفاني ممّا أكره. وأصحاب الخبر يكتبون بخبره إلى العسكر، والبُرُدُ تختلف كلّ يوم.
وجاء بنو هاشم فدخلوا عليه وجعلوا يبكون عليه؛ وجاء قوم من القضاة وغيرهم، فلم يؤذن لهم. ودخل عليه شيخ فقال: أذكُرْ وقوفك بين يدي الله. فشهق أبو عبد الله وسالت الدموع على خديه. فلمّا كان قبل وفاته بيوم أو يومين قال: -[1065]- ادعوا لي الصّبيان بلسانٍ ثقيل. فجعلوا ينضمّون إليه، وجعل يشمّهم ويمسح بيده على رؤوسهم وعينه تدمع. وأدخلت الطّسْت تحته، فرأيت بَوْلَهُ دمًا عبيطًا ليس فِيهِ بول، فقلت للطّبيب فقال: هذا رَجُل قد فتَّت الحُزْن والغَمُّ جَوْفَه. واشتدّت علته يوم الخميس ووضّأته فقال: خلل الأصابع. فلما كانت ليلة الجمعة، ثقل، وقبض صدر النهار، فصاح الناس، وعلت الأصوات بالبكاء، حَتَّى كأن الدنيا قد ارتجت، وامتلأت السكك والشوارع.
وقال أبو بَكْر الخلال: أخبرني عصمة بْن عصام قال: حدثنا حنبل قال: أعطى بعض ولد الفضل بن الربيع أَبَا عبد الله وهو فِي الحبس ثلاث شعرات فقال: هذه مِنْ شَعْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأوصى عند موته أن يجعل على كل عين شعرة، وشعرة على لسانه. ففعل به ذلك عند موته.
وقال حنبل: تُوُفّي يوم الجمعة في ربيع الأوّل.
وقال مُطّيَّن: مات في ثاني عشر ربيع الأوّل.
وكذلك قال عبد الله بن أحمد، وعبّاس الدُّوريّ.
وقال البخاريّ: مرض أحمد بن حنبل لليلتين خَلَتَا من ربيع الأوّل، ومات يوم الجمعة لاثنتي عشرة خَلَت من ربيع الأوّل.
قلت: غلِط ابنُ قانع، وغيره، فقالوا في ربيع الآخر، فليعرف ذلك.
وقال الخلال: حدثنا المَرُّوذيّ قال: أُخرجت الجنازة بعد منصرف النّاس من الجمعة.
قُلْتُ: وَقَدْ رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ في مسنده، حدثنا أبو عامر، قال: حدثنا هشام بْنُ سَعْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلالٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ سَيْفٍ، عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلا وَقَاهُ اللَّهُ فِتْنَةَ الْقَبْرِ.».
وقال صالح: وجه ابن طاهر، يعني نائب بغداد بحاجبه مظفّر، ومَعه غلامين معهما مناديل، فيها ثياب وطيب فقالوا: الأمير يُقرئك السّلام ويقول: -[1066]- قد فعلتُ ما لو كان أمير المؤمنين حاضره كان يفعل ذلك. فقلت: أقرِئ الأمير السّلام وقل له: إنّ أمير المؤمنين قد كان أعفاه فِي حياته مِمَّا كان يكره، ولا أحبّ أن أُتْبعه بعد موته بما كان يكرهه فِي حياته. فعاد، وقال: يكون شعاره، فأعدت عليه مثل ذلك. وقد كان غَزَلت له الجارية ثوبًا عشاريًا قُوّم بثمانية وعشرين درهمًا ليقطع منه قميصين، فقطعنا له لفافتين، وأخذ منه فوران لُفافَة أخرى، فأدرجناه فِي ثلاث لفائف، واشترينا له حَنُوطًا، وفُرغ من غسله، وكفّناه. وحضر نحوَ مائةٍ من بني هاشم ونحن نكفّنه، وجعلوا يقبّلون جبهته حَتَّى رفعناه على السّرير.
وقال عبد الله بْن أحمد: صلّى على أَبِي محمد بْنُ عبد الله بْن طاهر، غَلبنا على الصّلاة عليه. وقد كُنَّا صلّينا عليه نَحْنُ والهاشميّون فِي الدّار.
وقال صالح: وجّه إلي ابن طاهر: مَن يصلّي عليه؟ قلت: أَنَا. فلمّا صرنا إلى الصّحراء إذا ابن طاهر واقف، فخطا إلينا خطوات وعزَّانا ووضع السّرير. فلمّا انتظرت هُنَيَّةً تقدّمتُ وجعلتُ أسوّى صفوفَ النّاس، فجاءني ابن طاهر فقبض هذا على يدي، ومحمد بْن نصر على يدي وقالوا: الأمير. فمانَعْتُهُم فَنَحِّيَاني وصلّى، ولم يعلم النّاسُ بذلك. فلمّا كان من الغد علم النّاسُ، فجعلوا يجيئون ويصلُّون على القبر. ومكث النّاسُ ما شاء اللَّه يأتون فيصلُّون على القبر.
وقال عُبَيْد اللَّه بْن يحيى بْن خاقان: سمعت المتوكل يقول لمحمد بْن عبد الله: طوبى لك يا محمد، صليت على أحمد بْن حنبل، رحمة اللَّه عليه.
وقال أبو بَكْر الخلال: سمعتُ عَبْد الوهّاب الورّاق يقول: ما بَلَغَنَا أن جَمْعًا فِي الجاهليّة والإسلام مثله، حَتَّى بَلَغَنَا أنّ الموضع مُسح وحُزِر على الصّحيح، فإذا هُوَ نحوٌ من ألف ألف، وحزرنا على القُبُور نحوًا من ستّين ألف امْرَأَة.
وفتح النّاسُ أبواب المنازل فِي الشّوارع والدُّرُوب ينادون: مَن أراد الوضوء؟
وروي عبد الله بْن إسحاق البَغَويّ أَنْ بنَان بْن أحمد القَصَبانيّ أخبره أنّه حضر جنازة أحمد، فكانت الصُّفوف من الميدان إلى قنطرة باب القطيعة، وحُزِر من حضرها من الرجال ثمان مائة ألف، ومن النّساء ستّين ألف امْرَأَة. ونظروا فيمن صلّى العصر فِي مسجد الرُّصافة فكانوا نيّفًا وعشرين ألفًا.
وقال مُوسَى بْن هارون الحافظ: يقال: إنّ أحمد لما مات، مسحت -[1067]- الأمكنة المبسوطة الّتي وقف النّاسُ للصّلاة عليها، فحُزر مقادير النّاس بالمساحة على التقدير ستّمائة ألف وأكثر، سوى ما كان فِي الأطراف والحوالي والسُّطُوح والمواضع المتفرّقة أكثر من ألف ألف.
وقال جَعْفَر بْن محمد بْن الْحُسَيْن النَّيْسَابوريُّ: حَدَّثَنِي فتح بْن الحَجّاج قال: سمعتُ فِي دار الأمير محمد بْن عَبْد اللَّه بْن طاهر أنّ الأمير بعث عشرين رجلا يحزروا كم صلّى على أحمد بْن حنبل، فبلغ ألف ألف وثمانين ألفًا، سوى من كان فِي السُّفُن فِي الماء. ورواها خشنام بْن سَعِيد فقال: بلغوا ألف ألف وثلاث مائة ألف.
وقال ابن أبي حاتم: سمعتُ أَبَا زُرْعة يقول: بَلَغَني أنّ المتوكّل أمَر أن يُمسح الموضع الَّذِي وقف عليه الناس حيث صَلَّى على أحمد، فبلغ مقام ألفي ألف وخمس مائة.
وقال البيهقيّ: بَلَغَني عن البَغَوَيّ أنّ محمد بْن عبد الله بْن طاهر أمر أن يحزر الخلق الَّذِي فِي جنازة أحمد، فاتّفقوا على سبع مائة ألف.
وقال أبو هَمّام الوليد بْن شجاع: حضرت جنازة شَرِيك، وجنازة أبي بَكْر بْن عيّاش، ورأيت حضور النّاس، فما رَأَيْتُ جمعًا قطّ يشبه هذا. يعني فِي جنازة أحمد.
وقال أبو عبد الرحمن السُّلَميّ: حضرت جنازة أبي الفتح القوّاس مع الدّارّقُطْنيّ، فلمّا نظر إلى الْجَمْع قال: سمعتُ أَبَا سهل بن زياد يَقُولُ: سمعتُ عبد الله بْن أحمد بْن حنبل يقول: سمعت أبي يقول: قولوا لأهل البِدَع: بيننا وبينكم الجنائز.
وقال ابن أبي حاتم: حَدَّثَنِي أبو بكر محمد بن العباس المكي قال: سمعت الوَرْكانيّ جار أحمد بْن حنبل يقول: يوم مات أحمد بْن حنبل وقع المأتم والنَّوْح فِي أربعة أصناف: المسلمين واليهود والنّصارى والمجوس. وأسَلَمَ يوم مات عشرون ألفًا من اليهود والنّصارى والمجوس. وفي لفظٍ -[1068]- عن ابن أبي حاتم: عشرة آلاف.
وهي حكاية منكرة لا أعلم أحدا رواها إلا هذا الوَرْكانيّ، ولا عَنْهُ إلا محمد بْن الْعَبَّاس، تفرّد بها ابن أبي حاتم، والعقل يحيل أن يقع مثل هذا الحادث فِي بغداد ولا يرويه جماعة تتوفّر هِمَمُهُم، ودَوَاعيهم على نقل ما هُوَ دون ذلك بكثير. وكيف يقع مثل هذا الأمر الكبير ولا يذكره المَرُّوذيّ، ولا صالح بْن أحمد، ولا عبد الله ولا حنبل الّذين حكوا من أخبار أبي عبد الله جُزَيْئات كثيرة لا حاجة إلى ذكرها. فوالله لو أسلم يوم موته عشرة أَنَفسٍ لكان عظيمًا، ولكان ينبغي أن يرويه نحو من عشرة أنفس. وقد تركت كثيرًا من الحكايات، إمّا لضَعْفها، وإمّا لعدم الحاجة إليها، وإما لطولها. ثُمَّ انكشف لي كذب الحكاية بأنّ أَبَا زُرعة قال: كان الوَرْكانيّ، يعني محمد بْن جَعْفَر، جار أحمد بْن حنبل وكان يرضاه. وقال ابنُ سعد، وعبد اللَّه بْن أحمد، وموسى بْن هارون: مات الوَرْكانيّ فِي رمضان سنة ثمانٍ وعشرين ومائتين. فظهر لك بهذا أنّه مات قبل أحمد بدهرٍ، فكيف يحكى يوم جنازة أحمد، رحمه اللَّه؟
قال صالح بْن أحمد: جاء كتاب المتوكّل بعد أيّام من موت أَبِي إلى ابن طاهر يأمره بتعزيتنا، ويأمر بحمل الكُتُب. فحملتها وقلتُ: إنّها لنا سماع، فتكون فِي أيدينا وتُنَسَخ عندنا. فقال: أقول لأمير المؤمنين. فلم نزل ندافع الأمير، ولم تخرج عن أيدينا، والحمد لله.
وقد جمع مناقب أبي عبد الله غير واحد، منهم أبو بَكْر البَيْهقيّ فِي مجلّد، ومنهم أبو إسماعيل الْأَنْصَارِيّ فِي مُجَيْلد، ومنهم أبو الفرج ابن الْجَوْزيّ فِي مجلّد، والله تعالى يرضى عَنْهُ ويرحمه.
نام کتاب : تاريخ الإسلام - ت بشار نویسنده : الذهبي، شمس الدين جلد : 5 صفحه : 1063