نام کتاب : تاريخ الإسلام - ت بشار نویسنده : الذهبي، شمس الدين جلد : 5 صفحه : 1049
-فصل في حال أبي عبد الله أيّام المتوكّل
قال حنبل: ولي جعفر المتوكّل فأظهر الله السنة وفرّج عن النّاس، وكان أبو عبد الله يحدِّثنا ويحدِّث أصحابه في أيّام المتوكّل، وسمعته يقول: ما كان النّاس إلى الحديث والعلم أحوج منهم في زماننا. ثمّ إنّ المتوكّل ذكره وكتب إلى إسحاق بن إبراهيم في إخراجه إليه. فجاء رسول إسحاق إلى أبي عبد الله يأمره بالحضور، فمضى أبو عبد الله ثم رجع فسأله أبي عمّا دُعِيَ له فقال: قرأ عليَّ كتاب جعفر يأمرني بالخروج إلى العسكر. قال: وقال لي إسحاق بن إبراهيم: ما تقول في القرآن؟ فقلت: إنّ أمير المؤمنين قد نهى عن هذا. فقال: لا تُعِلْم أحدًا أنّي سألتك. فقلت له: مسألة مسترشد أو مسألة متعنّت؟ قال: بل مسألة مسترشد. فقلت له: القرآن كلام الله ليس بمخلوق، وقد نهى أمير المؤمنين عن هذا.
وخرج إسحاق إلى العسكر، وقدم ابنه محمد خليفةً له ببغداد، ولم يكن عند أبي عبد الله ما يتجمّل به وينفقه، وكانت عندي مائة درهم، فأتيت بها أبي، فذهبت بها إليه، فأخذها وأصلح بها ما احتاج إليه، واكْتَرى منها، وخرج ولم يلق محمد بن إسحاق بن إبراهيم، ولا سلَّم عليه. فكتب بذلك محمد إلي أبيه، فحقدها إسحاق عليه، فقال للمتوكّل: يا أمير المؤمنين إنّ أحمد بن حنبل خرج من بغداد ولم يأت محمدا مولاك. فقال المتوكّل: يُرَدّ ولو وطئ بساطي. وكان أبو عبد الله قد بلغ بُصْرَى، فوجّه إليه رسولا يأمره بالرجوع، فرجع وامتنع من الحديث إلا لولده ولنا. وربّما قرأ علينا في منزلنا. ثمّ إنّ رافعًا رفع إلى المتوكّل أن أحمد بن حنبل رَبَّصَ علويّا في منزله، وأنّه يريد أن يُخرجه ويُبايع عليه، ولم يكن عندنا عِلْم، فبينا نحن ذات ليلة نيام في الصَّيف سمعنا الجلبة، -[1050]- ورأينا النّيران في دار أبي عبد الله، فأسرعنا، وإذا أبو عبد الله قاعدٌ في إزار، ومظفر ابن الكلبيّ صاحب الخبر وجماعة معهم. فقرأ صاحب الخبر كتاب المتوكل: وَرَدَ على أمير المؤمنين أن عندكم علويا ربصته لتبايع له وتُظهره. في كلامٍ طويل، ثمّ قال له مظفَّر: ما تقول؟ قال: ما أعرف من هذا شيئًا، وإنّي لأرى له السَّمع والطّاعة في عسري ويسري ومنشطي ومكرهي، وإني لأوثره عليّ وإني لأدعو الله له بالتّسديد والتّوفيق في اللّيل والنّهار. في كلامٍ كثير غير هذا.
وقال ابن الكلبيّ: قد أمرني أمير المؤمنين أن أُحَلِّفك. قال: فاحلفه بالطّلاق ثلاثًا أن ما عنده طلبة أمير المؤمنين. وفتَّشوا منزل أبي عبد الله والسَّرَب والغُرَف والسُّطُوح، وفتُشوا تابوت الكُتُب، وفتّشوا النّساء والمنازل، فلم يروا شيئًا ولم يحسّوا بشيء، وردّ الله الذين كفروا بغيظهم. وكتب بذلك إلى المتوكّل، فوقع منه موقعًا حسنًا، وعلم أنّ أبا عبد الله مكذوبٌ عليه. وكان الّذي دس عليه رجل من أهل البِدَع، ولم يَمُتْ حتّى بيَّن الله أمرَهُ للمسلمين، وهو ابن الثَّلجيّ.
فلمّا كان بعد أيّام بينا نحن جلوسٌ بباب الدّار إذا يعقوب أحد حُجّاب المتوكّل قد جاء، فاستأذن على أبي عبد الله، فدخل ودخل أبي وأنا، ومع بعض غلمانه بدْرةٌ، على بغْلٍ، ومعه كتاب المتوكّل، فقرأه على أبي عبد الله: إنه صحّ عند أمير المؤمنين برآءة ساحتك، وقد وجّه إليك بهذا المال تستعين به. فأبى أن يقبله وقال: ما لي إليه حاجة. فقال: يا أبا عبد الله، اقبل من أمير المؤمنين ما أمرك به؛ فإنّ هذا خير لك عنده، فاقبله ولا تردّه. فإنّك إنْ رددته خفت أن يظنّ بك ظَنّ سَوْء. فحينئذ قبِلَها. فلمّا خرج قال: يا أَبَا عليّ. قلت: لبِّيك. قال: ارفع هذه الإجانة وضعها، يعني البدْرة، تحتها. فوضعتها وخرجنا. فلما كان اللَّيْلُ إذا أمّ ولد أبي عبد الله تدقّ علينا الحائط، فقلت لها: ما لكِ؟ قالت: مولاي يدعو عمَّه. فأعلمت أبي، وخرجنا فدخلنا على أبي عبد الله، وذلك في جوف اللّيل. فقال: يا عمّ، ما أخذني النّوم هذه اللّيلة. فقال له أبي: ولِمَ؟ قال: لهذا المال، وجعل يتوجّع لأخْذه، وجعل أبي يُسَكِّنه ويُسَهِّل عليه، وقال: حتّى تُصبح وترى فيه رأيك، فإنّ هذا ليل والنّاس في منازلهم، فأمسك، وخرجنا. فلمّا كان في السِّحَر وجَّه إلى عَبْدُوس بن مالك، والحَسَن بن البزار، فحضرا، -[1051]- وحضر جماعة؛ منهم: هارون الحمّال، وأحمد بن مَنِيع، وابن الدَّوْرقيّ، وأنا، وأبي، وصالح، وعبد الله فجعلنا نكتب من يذكرونه من أهل العفاف والصّلاح ببغداد والكوفة، فوجّه منها إلى أبي سعيد الأشجّ، والى أبي كُرَيْب، وإلى من ذكر من أهل العلم والسنة ممّن يعلمون أنّه محتاج. ففرِّقها كلّها ما بين الخمسين إلى المائة والمائتين، فما بقي في الكيس دِرهم، ثمّ تصدَّق بالكيس على مسكين. فلما كان بعد ذلك مات إسحاق بن إبراهيم وابنه محمد، وولي بغداد عبد الله بن إسحاق، فجاء رسوله إلى أبي عبد الله، فذهب إليه، فقرأ عليه كتاب المتوكل وقال له: يأمرك بالخروج. فقال: أنا شيخ ضعيف عليل. فكتب عبد الله بما ردّ عليه، فورد جواب الكتاب أن أمير المؤمنين يأمره بالخروج. فوجّه عبد الله جنوده، فباتوا على بابنا أيّاما حتّى تهيّأ أبو عبد الله للخروج، فخرج وخرج صالح، وعبد الله، وأبو زميلة. قال صالح: كان حُمل أبي إلى المتوكّل سنة سبْعٍ وثلاثين ومائتين، ثم عاش إلى سنة إحدى وأربعين، فكان قلّ يوم يمضي إلا ورسول المتوكًل يأتيه.
قال حنبل في حديثه: وقال أبي ارجع. فرجعت، فأخبرني أبي قال: لما دخلنا إلى العسكر إذا نحن بموكب عظيم مقبل، فلمّا حاذى بنا قالوا: هذا وصيف. وإذا بفارس قد أقبل، فقال لأحمد: الأمير وصيف يُقْرئك السلام، ويقول لك: إنّ الله قد أمكنك من عدوّك، يعني ابن أبي دُؤاد، وأمير المؤمنين يقبل منك، فلا تدع شيئًا إلا تكلَّمت به. فما رد عليه أبو عبد الله شيئًا. وجعلت أنا أدعو لأمير المؤمنين، ودعوتُ لوَصِيف، ومضينا فأنزلنا في دار إيتاخ، ولم يعلم أبو عبد الله، فسأل بعد ذلك: لمن هذه الدار؟ قالوا: هذه دار إيتاخ. فقال: حولوني، اكتروا لي دارا، فلم نزل حتّى اكترينا له دارًا. وكانت تأتينا في كل يوم مائدة فيها ألوان يأمر بها المتوكّل، والفاكهة والثّلج، وغير ذلك. فما نظر إليها أبو عبد الله، ولا ذاق منها شيئًا. وكانت نفقة المائدة كلّ يوم مائة وعشرين درهمًا. وكان يحيى بن خاقان، وابنه عُبَيْد الله، وعليّ بن الْجَهْم يأتون أبا عبد الله ويختلفون إليه برسالة المتوكل. ودامت العِلّةُ بأبي عبد الله وضعُف ضعفًا شديدًا. وكان يواصل، فمكث ثمانية أيّام لا يأكل ولا يشرب. فلمّا كان في اليوم الثّامن دخلت عليه، وقد كاد أن يُطْفأ، فقلت: يا أبا عبد الله، ابْن -[1052]- الزُّبَيْر كان يواصل سبعة أيّام، وهذا لك اليوم ثمانية أيام، قال: إنّي مُطِيق. قلت: بحقّي عليك، قال: فإنّي أفعل، فأتيته بسَويق فشرب؛ ووجّه إليه المتوكّل بمالٍ عظيم فردَّه، فقال له عُبَيْد الله بن يحيى: فانّ أمير المؤمنين يأمرك أن تدفعها إلى ولدك وأهلك. قال: هم مستغنون فردّها عليه. فأخذها عُبَيْد الله فقسّمها على ولده وأهله. ثُمَّ أجرى المتوكّل على أهله وولده أربعة آلاف في كلّ شهر، فبعث إليه أبو عبد الله: إنّهم في كفاية، وليست بهم حاجة. فبعث إليه المتوكّل: إنّما هذا لولدك، ما لكَ ولهذا؟ فأمسك أبو عبد الله. فلم يزل يُجْري علينا حتّى مات المتوكّل.
وجرى بين أبي عبد الله وبين أبي في ذلك كلام كثير، وقال: يا عمُّ، ما بقي من أعمارنا؟ كأنّك بالأمر قد نزل بنا، فالله الله فإنّ أولادنا إنّما يريدون يتأكّلون بنا، وإنّما هي أيام قلائل، لو كُشِفَ للعبد عمّا قد حُجِب عنه لعَرف ما هو عليه من خيرٍ أو شرّ، صبرٌ قليل وثوابٌ طويل، وإنّما هذه فتنة. قال أبي: فقلت: أرجو أن يؤمنك الله ممّا تحذر. قال: فكيف وأنتم لا تتركون طعامهم ولا جوائزهم، لو تركتموها لتركوكم. وقال: ماذا ننتظر؟ إنّما هو الموت، فإمّا إلى جنة وإمّا إلى نار؛ فطوبى لمن قدِم على خير. قال أبي: فقلت له: أليس قد أمرت، ما جاءك من هذا المال من غير مسألة ولا إشراف نفس أن تأخذه؟ قال: قد أخذت مرة بلا إشراف نفس فالثانية والثالثة؛ فما بال نفسك ألم تستشرف؟ فقلت: ألم يأخذ ابن عُمر وابن عبّاس؟ فقال: ما هذا وذاك؟ وقال: لو أعلم أنّ هذا المال يؤخذ من وجهه ولا يكون فيه ظُلم ولا حيف لم أُبَالِ.
قال حنبل: فلمّا طالت علّة أبي عبد الله كان المتوكّل يبعث بابن ماسَوَيْه المتطبّب فيصف له الأدوية، فلا يتعالج، ويدخل المتطبب على المتوكّل فقال: يا أمير المؤمنين، أحمد ليست به عِلّة في بدنه، إنّما هو من قلّة الطّعام والصّيام والعبادة. فسكت المتوكّل. وبلغ أمَّ المتوكّل خبرُ أبي عبد الله، فقالت لابنها: أشتهي أن أرى هذا الرجل. فوجّه المتوكّل إلى أبي عبد الله يسأله أن يدخل على ابنه المُعَتَزّ ويُسَلِّمَ عليه ويدعو له ويجعله فِي حُجْره. فامتنع أبو عبد الله من ذلك، ثُمَّ أجابَ رجاء أن يُطْلق وينحدر إلى بغداد. فوجّه إليه المتوكّل خلعة، وأتوه بدابّة يركبها إلى المعتزّ، فامتنع، وكانت عليها ميثرة نُمُور. فقُدِّم إليه بَغْل لرجل من التّجّار فركبه، وجلس المتوكّل مع أمّه فِي مجلسٍ من المكان، وعلى المجلس سَترٌ رقيق، فدخل أبو عبد الله على المعتزّ، ونظر إليه المتوكل وأمه، -[1053]- فلمّا رأته قَالَتْ: يا بُنيّ، اللَّه اللَّه فِي هذا الرجل، فليسَ هذا ممّن يريد ما عندكم، ولا المصلحة أن تحبسه عن منزله، فَأذَن له فليذْهب. فدخل أبو عبد الله على المعتزّ فقال: السّلام عليكم، وجلسَ ولم يسلّم عليه بالإمرة. قال: فسمعت أَبَا عبد الله بعد ذلك ببغداد يقول: لمّا دخلت عليه وجلست قال مؤدِّب الصّبيّ: أصلح اللَّه الأمير، هذا الَّذِي أمَره أميرُ المؤمنين يؤدِّبك ويعلّمك؟ فردَّ عليه الغلام وقال: إن علَّمني شيئًا تعلَّمته. قال أبو عبد الله: فعجبتُ من ذكائه وجوابه على صِغَره، وكان صغيرًا. قال: ودامت عِلّةُ أبي عبد الله وبلغ الخليفة ما هُوَ فِيهِ، وكلَّمه يحيى بْن خاقان أيضًا وأخبره أنّه رَجُل لا يريد الدنيا. فأذن له في الانصراف. فجاء عبيد الله بن يحيى وقت العصر فقال: إنّ أمير المؤمنين قد أذِن لك، وأمرَ أن تُفرش لك حَرّاقة تنحدر فيها. فقال أبو عبد الله: اطلبوا لي زَوْرقًا فأنحدر فِيهِ السّاعة، فطلبوا له زورقًا فانحدرَ فِيهِ من ساعتِه.
قال حنبل: فما عِلمْنا بقدومه حَتَّى قيل لي: إنّه قد وافى، فاستقبلته بناحية القطيعة، وقد خرج من الزَّورق، فمشيت معه فقال لي: تقدَّم لا يراك النّاس فيعرفوني. فتقدَّمت بين يديه حَتَّى وصل إلى المنزل، فلمّا دخل ألقى نفسه على قفاه من التعب والعناء. وكان فِي حياته ربما استعار الشّيء من منزلنا ومنزل ولده. فلمّا صار إلينا من مال السّلطان ما صار امتنع من ذلك، حَتَّى لقد وُصف له فِي عِلّته قَرْعةٌ تُشْوَى ويؤخذ ماؤها. فلمّا جاءوا بالقَرْعة قال بعض من حضر: اجعلوها فِي تنّور، يعني فِي دار صالح، فإنّهم قد خبزوا. فقال بيده: لا. ومثل هذا كثير.
وقد ذكر صالح بْن أحمد قصّة خروج أَبِيهِ إلى العسكر ورجوعه، وتفتيش بيوتهم على العلويّ، ثُمَّ ورود يعقوب قَرْقَرَة ومعه العشرة آلاف، وأنّ بعضها كان مائتي دينار والباقي دراهم، قال: فجئت بأجّانة خضراء، فأكببتها على البدْرة، فلمّا كان عند المغرب قال: يا صالح خذ هذا صيّرْه عندك. فصيّرته عند رأسي فوق البيت. فلمّا كان سَحَر إذا هُوَ ينادي: يا صالح. فقمت وصعدت إليه، فقال: ما نمت. قلت: لِمَ يا أبه؟ فجعل يبكي وقال: سِلمتُ من هؤلاء، حَتَّى إذا كان فِي آخر عمري بُليتُ بهم. وقد عزمتُ عليك أن تفرّق هذا الشيء إذا أصبحت، فقلت: ذاك إليك. فلما أصبح جاءه الحسن ابن البزار فقال: -[1054]- جئني يا صالح بميزان. وجِّهوا إلى أبناء المهاجرين والأنصار. ثم قال: وجِّهْ إلى فلانٍ حَتَّى يفرّق فِي ناحيته، وإلى فلان، حَتَّى فرّقها كلّها، ونحن فِي حالةٍ اللَّه بها عليم، فجاءني ابنٌ لي فقال: يا أبَه أعطني درهمًا. فأخرجت قطعةً فأعطيته. فكتب صاحب البريد: إنّه تصدّق بالدّراهم فِي يومه، حَتَّى تصدَّق بالكيس.
قال عليّ بْن الْجَهْم: فقلت: يا أمير المؤمنين قد تصدَّق بها. وعلم النّاس أنّه قد قبلَ منك. ما يصنع أحمد بالمال وإنّما قُوتُه رغيف؟! قال: فقال لي: صدقت يا عليّ.
قال صالح: ثم أخرج أبي ليلا، ومعنا حُرّاس معهم النّفّاطات، فلمّا أصبح وأضاء الفجر قال لي: صالحُ معك دراهم؟ قلت: نعم. قال: أَعْطِهم. فلمّا أصبحنا جعل يعقوب يسير معه، فقال له: يا أَبَا عبد الله، ابن الثّلجي بَلَغَني أنّه كان يذكرك. فقال له: يا أَبَا يوسف سلِ اللَّه العافية. فقال له: يا أَبَا عبد الله تريد أن نؤدّي عنك رسالةً إلى أمير المؤمنين؟ فسكت. فقال: إنّ عبد الله بْن إسحاق أخبرني أنّ الوابصيّ قال له: إنّي أشهد عليه أنّه قال: إنّ أحمد يعبُد ماني. فقال: يا أَبَا يوسف يكفي اللَّه. فغضب يعقوب والتفتَ إليَّ فقال: ما رَأَيْت أعجب ممّا نَحْنُ فِيهِ، أسأله أن يطلق لي كلمةً أخبر أمير المؤمنين، فلا يفعل.
قال: ووجّه يعقوب إلى المتوكّل بما عمل، ودخلنا العسكر وأبي منكِّس الرأس، ورأسه مُغَطّى، فقال له يعقوب: اكشف رأسك يا أَبَا عبد الله، فكشفه. ثُمَّ جاء وصيف يريد الدّار، ووجّه إليه بعدما جاز بيحيى بْن هَرْثَمَة فقال: يُقرئك أمير المؤمنين السّلام ويقول: الحمد لله الَّذِي لم يُشْمت بك أهل البِدَع. قد علمتَ ما كان من حال ابن أبي دُؤاد، فينبغي أن تتكلَّم بما يجب لله. ومضى يحيى وأنزل أبي دار إيتاخ، فجاء عليّ بْن الْجَهْم وقال: قد أمرَ لكم أمير المؤمنين بعشرة آلاف مكان تلك التي فرقها، وأمرَ أن لا يُعلم شيخكم بذلك فيغتَمّ. ثُمَّ جاءه محمد بْن معاوية فقال: إنّ أمير المؤمنين يكثر من ذكرك ويقول: تقيم هاهنا تحدث. فقال: أَنَا ضعيف. ثُمَّ صار إليه يحيى بْن خاقان فقال: يا أَبَا عبد الله قد أمر أمير المؤمنين أن أصير إليك لتركب إلى ابنه أبي عبد الله، يعني المعتزّ. ثُمَّ قال لي: قد أمرني أمير المؤمنين، يجرى عليكم وعلى قراباتكم أربعة آلاف درهم، تفرقها عليهم. -[1055]-
ثُمَّ عاد يحيى من الغد فقال: يا أَبَا عبد الله تركب؟ فقال: ذاك إليكم. ولبس إزاره وخُفّه. وكان خفه له عنده نحو من خمسة عشر عامًا، قد رُقّع برقاع عدّة. فأشار يحيى أن يلبس قَلَنْسُوَة. قلت: ما له قَلَنْسُوَة. إلى أن قال: فدخل دار المعتزّ، وكان قاعدًا على دُكّان فِي الدّار، فلمّا صعِد الدُّكّان قعد فقال له يحيى: يا أَبَا عبد الله إنّ أمير المؤمنين جاء بك ليُسرّ بقربك، ويُصيّر أَبَا عبد الله ابنه فِي حُجْرك. فأخبرني بعضُ الخدم أنّ المتوكّل كان قاعدًا وراء سترٍ. فلمّا دخل أبي الدّار قال لأمه: يا أمَه قد نارت الدّار. ثُمَّ جاء خادم بمنديل، فأخذ يحيى المنديل، وذكر قصّةً فِي إلباسه القميص والطَّيْلسان والقَلَنْسُوَة وهو لا يحرّك يده. ثُمَّ انصرف. وكانوا قد تحدّثوا أنّه يخلع عليه سوادًا. فلمّا صار إلى الدّار نزع الثّياب، ثُمَّ جعل يبكي وقال: سلمت من هؤلاء منذ ستّين سنة، حَتَّى إذا كان فِي آخر عمري بُليتُ بهم. ما أحسبني سلمتُ من دخولي على هذا الغلام، فكيف بمن يجب عليَّ نُصْحه من وقت تقع عيني عليه، إلى أن أخرج من عنده. يا صالح وجّه بهذه الثّياب إلى بغداد تباع ويُتصدَّق بثمنها، ولا يشتري أحد منكم منها شيئًا. فوجَهتُ بها إلى يعقوب بن بختان، فباعها وفرق ثمنها، وبقيت عندي القَلَنْسُوة. قال: ومكث خمسة عشر يومًا يُفْطر فِي كلّ ثلاثةٍ على ثمن سَويق، ثُمَّ جعل بعد ذلك يُفطر ليلةً على رغيف، وليلة لا يُفْطر. وكان إذا جيء بالمائدة توضع بالدِّهْليز لئلا يراها، فيأكل مَن حَضَر. فكان إذا أجهده الحَرُّ بَلَّ خرقةً فيضعها على صدره. وفي كلّ يوم يوجّه إليه بابن ماسَوَيْه فينظر إليه ويقول: يا أَبَا عبد الله أَنَا أميل إليك وإلى أصحابك، وما بك علّة إلا الضُّعف وقلة الرز. إلى أن قال: وجعل يعقوب وغِياث يصيران إليه ويقولان له: يقول لك أمير المؤمنين: ما تقول فِي ابن أبي دُؤاد وفي ماله؟ فلا يجيب فِي ذلك بشيء. وجعل يعقوب ويحيى يخبرانه بما يحدث فِي أمر ابن أبي دُؤاد فِي كلّ يوم، ثُمَّ أحْدِر إلى بغداد بعدما أشهد عليه ببيع ضياعه. وكان ربّما صار إليه يحيى بْن خاقان وهو يصلّي، فيجلس فِي الدِّهْليز حَتَّى يفرغ.
وأمر المتوكّل أن تشترى لنا دار فقال: يا صالح، قلت: لبيك. قال: لئن أقررت لهم بشراء دار لتكوننّ القطيعة بيني وبينكم. إنّما يريدون أن يصيّروا هذا البلد لي مأوى ومسكنا. فلم يزل يدفع بشراء الدّار حتّى اندفع. وجَعَلَتْ رُسُل -[1056]- المتوكّل تأتيه يسألونه عَنْ خبره، ويصيرون إليه فيقولون: هُوَ ضعيف. وفي خلال ذلك يقولون: يا أَبَا عبد الله لا بدّ من أن يراك.
وجاءه يعقوب فقال: يا أَبَا عبد الله، أمير المؤمنين مشتاق إليك ويقول: أنظر يومًا تصير فِيهِ أيّ يوم هُوَ حَتَّى أعرفه. فقال: ذاك إليكم. فقال: يوم الأربعاء يوم خال. وخرج يعقوب، فلمّا كان من الغد جاء فقال: البُشْرَى يا أَبَا عبد الله، أميرُ المؤمنين يقرأ عليك السّلام ويقول: قد أعفيتك عن لبس السّواد والرُّكُوب إلى وُلاة العهود وإلى الدّار. فإنْ شئت فالْبس القُطْن، وإن شئت فالْبس الصّوف. فجعل يحمد اللَّه على ذلك. ثُمَّ قال يعقوب: إنّ لي ابنًا وأنا به مُعْجَب، وإنّ له من قلبي موقعًا، فأحبّ أن تحدّثه بأحاديث. فسكت، فلمّا خرج قال: أتراه لا يرى ما أَنَا فِيهِ؟! وكان يختم من جمعة إلى جمعة. فإذا ختم دعا فيدعو ونُؤَمِّن، فلمّا كان غداة الجمعة وجَّه إليَّ والى أخي، فلما ختم جعل يدعو ونحن نُؤَمِّن، فلمّا فرغ جعل يقول: أستخير اللَّه، مرّات. فجعلت أقول ما يريد. ثُمَّ قال: إنّي أعطي اللَّه عهدًا، إنّ عهده كان مسؤولا. وقال اللَّه: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} إنّي لا أحدّث حديث تمامٍ أبدًا حَتَّى ألقى اللَّه، ولا أستثني منكم أحدًا. فخرجنا وجاء عليّ بْن الْجَهْم، فأخبرناه فقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، وأخبر المتوكّل بذلك وقال: إنما يريدون أُحدِّث ويكون هذا البلد حبْسي. وإنما كان سبب الَّذِين أقاموا بهذا البلد لما أُعطوا فقبلوا وأُمِروا فحدَّثوا. وجعل أبي يقول: والله لقد تمنّيت الموت فِي الأمرِ الَّذِي كان، وإني لأتمنى الموت في هذا، وذلك لأن هذا فتنة الدّنيا، وذاك كان فتنة الدّين، ثُمَّ جعل يضمّ أصابعه ويقول: لو كان نفسي فِي يدي لأرسلتها. ثُمَّ يفتح أصابعه. وكان المتوكل يوجّه فِي كلّ وقت يسأله عن حاله، وكان فِي خلال ذلك يأمر لنا بالمال ويقول: يوصل إليهم، ولا يُعلم شيخهم فيغتمّ. ما يريد منهم؟ إن كان هُوَ لا يريد الدّنيا، فلِمَ يمنعهم؟ وقالوا للمتوكّل: إنّه لا يأكل من طعامك، ولا يجلس على فراشك، ويحرّم الَّذِي تشرب. فقال لهم: لو نشر لي المعتصم وقال فِيهِ شيئًا لم أقبلْ منه.
قال صالح: ثُمَّ انحدرتُ إلى بغداد، وخلَّفتُ عبد الله عنده، فإذا عبد الله قد قدِم، وجاء بثيابي الّتي كانت عنده. فقلت: ما جاء بك؟ فقال: قال لي: انحدرْ، وقُلْ لصالح لا يخرج، فأنتم كنتم آفتي. والله لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أخرجت واحدا منكم معي. لولاكم لمن كانت توضع هذه -[1057]- المائدة؟ ولمن كان تفرش هذه الفرش وتُجرى الإجراء؟ فكتبت إليه أُعْلِمُه ما قال لي عبد الله، فكتب إليَّ بخطه: أحسنَ اللَّه عاقبتك، ودفع عنك كلّ مكروه ومحذور، الَّذِي حملني على الكتاب إليك الَّذِي قلت لعبد اللَّه: لا يأتيني منكم أحدٌ رجاء أن ينقطع ذِكري ويَخْمُل. إذا كنتم هاهنا فشا ذِكْري. وكان يجتمع إليكم قوم ينقلون أخبارنا، ولم يكن إلا خير. فإن أقمتَ فلم تأتني أنتَ ولا أخوك فهو رضائي، ولا تجعل فِي نفسك إلا خيرا، والسلام عليك ورحمة الله.
قال: ولما خرجنا من العسكر رُفعت المائدة والفرش وكلّ ما أقيم لنا.
ثُمَّ ذكر صالح كتاب وصيّته ثُمَّ قال: وبعث إليه المتوكل بألف دينار ليقسمها، فجاءه عليّ بْن الْجَهْم فِي جوف اللّيل، فأخبره بأنه يهيّئ له حرّاقة لينحدر فيها. ثُمَّ جاء عبيد الله ومعه ألف دينار، فقال: إنّ أمير المؤمنين قد أذِن لك، وقد أمر لك بهذه، فقال: قد أعفاني أمير المؤمنين ممّا أكره، فردّها. وقال: أَنَا رقيق على البرد، والظّهر أرفق بي. فكتب له جواز، وكتب إلى محمد بْن عبد الله فِي برِّه وتَعَاهُده، فقدِم علينا. ثُمَّ قال بعد قليل: يا صالح. قلت: لبَّيْك. قال: أحبّ أن تدع هذا الرزق، فإنّما تأخذونه بسببي. فسكتُّ، فقال: ما لك؟ فقلت: أكره أن أعطيك شيئا بلساني وأخالف إلى غيره، وليس فِي القوم أكثر عيالا مني ولا أعذر. وقد كنت أشكو إليك وتقول: أمرك منعقد بأمري، ولعلّ اللَّه أن يحلّ عنّي هذه العُقْدة. وقد كنت تدعو لي، فأرجو أن يكون اللَّه قد استجاب لك. فقال: والله لا تفعل. فقلت: لا. فقال: لِمَ فعل اللَّه بك وفعل؟
ثُمَّ ذكر قصة في دخول عبد الله عليه، وقوله له وجوابه له، ثُمَّ دخول عمّه عليه وإنكاره الأخذ، إلى أن قال: فهجَرنا وسدَّ الباب بيننا وبينه، وتحامي منازلنا أن يدخل منّا إلى منزله شيء. ثُمَّ أُخْبِرَ بأخذ عمه فقال: نافقتني، وكذبتني. ثُمَّ هجره وترك الصّلاة فِي المسجدٍ، وخرج إلى مسجد خارج يصلّي فِيهِ.
ثُمَّ ذكر قصة دعائه صالحا ومعاتبته في ذلك، ثم في كتبته إلى يحيى بن خاقان ليترك معونة أولاده، وبلوغ الخبر إلى المتوكّل، فأمر بحمل ما اجتمع لهم فِي عشرة أشهر، وهو أربعون ألف درهم إليهم. وإنه أُخْبِر بذلك، فسكت -[1058]- قليلا وضرب بذقنه على صدره، ثُمَّ رفع رأسه وقال: ما حيلتي إن أردت أمرًا وأراد اللَّه أمرا؟!
قال أبو الفضل صالح: وكان رسول المتوكّل يأتي أبي يبلّغه السّلام، ويسأله عن حاله، فتأخذه نفضة حَتَّى نُدَثّره، ثُمَّ يقول: والله، لو أن نفسي في يدي لأرسلتها. وجاء رسول المتوكّل إلى أبي يقول: لو سلم أحد من النّاس سلمتَ. رَفَع رَجُلٌ إليَّ أن علويّا قدِم من خُراسان، وأنّك وجَّهت إليه من يلقاه، وقد حبست الرجل وأردتُ ضربه فكرهتُ أن تغتمّ فَمُرْ فِيهِ. قال: هذا باطل، يُخْلى سبيله.
ثُمَّ ذكر قصّة فِي قُدوم المتوكّل بغداد، وإشارته على صالح بأن لا يذهب إليهم، ثُمَّ فِي مجيء يحيى بْن خاقان من عند المتوكّل، وما كان من احترامه ومجيئه بألف دينار ليفرّقها، وقوله: قد أعفاني أمير المؤمنين من كلّ ما أكره. وفي توجيه محمد بْن عبد الله بْن طاهر ليحضره وامتناعه من حضوره وقوله: أَنَا رَجُل لم أخالط السلطان، وقد أعفاني أمير المؤمنين ممّا أكره. وهذا ممّا أكره. قال: وكان قد أدمن الصّوم لما قدم، وجعل لا يأكل الدَّسِم. وكان قبل ذلك يُشترى له الشحم بدرهم، فيأكل منه شهرًا، فترك أكل الشَّحم وأدمنَ الصوم والعمل، فتوهّمت أنّه قد كان جعل على نفسه إن سلم أن يفعل ذلك.
وقال الخلال أبو بكر: حَدَّثَنِي محمد بْن الحسين أن أبا بكر المَرُّوذيّ حدَّثهم قال: كان أبو عبد الله بالعسكر يقول: أنظر هَلْ تجد لي ماء الباقِلاء، فكنت ربّما بللت خبزه بالماء فيأكله بالملح. ومنذ دخلنا العسكر إلى أن خرجنا ما ذاق طبيخا ولا دَسَمًا.
وعن المَرُّوذيّ قال: أنبهني أبو عبد الله ذات ليلة وكان قد واصل، فإذا هُوَ قاعد فقال: هُوَ ذا يُدَارُ بي من الجوع، فأطعمني شيئًا، فجئته بأقلّ من رغيف، فأكله وقال: لولا أنّي أخاف العون على نفسي ما أكلت. وكان يقوم من فراشه إلى المخرج، فيقعد يستريح من الضَّعف من الجوع حَتَّى أنْ كنت لأبلّ الخرقة فيلقِها على وجهه لترجع إليه نَفْسُه، حتى أوصى من الضعف من غير مرض، فسمعته يقول عند وصيته ونحن بالعسكر، وأشهد على وصيّته: هذا ما أوصى به أحمد بْن محمد، أوصى أنّه يشهد أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا -[1059]- شريك له، وأنّ محمدا عبده ورسوله، وذكر ما يأتي.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: مكث أبي بالعسكر عند الخليفة ستّة عشر يومًا، ما ذاق شيئًا إلا مقدار ربع سويق، ورأيت ماقي عينيه قد دخلا فِي حَدَقتيه.
وقال صالح بْن أحمد: وأوصى أبي بالعسكر هذه الوصيّة:
بسم اللَّه الرَّحْمَن الرحيم، هذا ما أوصى به أحمد بْن محمد بْن حنبل: أوصي أنه يشهد أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له، وأنّ محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودِين الحقّ ليظهره على الدّين كلّه ولو كره المشركون. وأوصى مَن أطاعه من أهله وقرابته أن يعبدوا اللَّه فِي العابدين، ويحمدوه فِي الحامدين، وأن ينصحوا لجماعة المسلمين. وأوصي أنّي قد رضيتُ بالله ربّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيّا. وأوصي أن لعبد اللَّه بْن محمد المعروف بفوران عليّ نحوًا من خمسين دينارا، وهو مصدّق فيما قال، فَيُقْضَى ما له عليَّ مِن غلّة الدّار إن شاء اللَّه، فإذا استوفى أُعطِيَ ولدُ صالح وعبد اللَّه ابني أحمد بْن محمد بْن حنبل، كلَّ ذَكَرٍ وأنثى عشرة دراهم بعد وفاء مال أبي محمد. شهد أبو يوسف، وصالح، وعبد الله ابنا أحمد.
أُنْبِئْتُ عَمَّنْ سَمِعَ أَبَا عَلِيٍّ الْحَدَّادَ، قال: أخبرنا أبو نعيم في الحلية، قال: حدثنا سليمان بن أحمد، قال: حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: كتب عبيد الله ابن يَحْيَى إِلَى أَبِي يُخْبِرُهُ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أمرني أن أكتب إليك أسألك عَنْ أَمْرِ الْقُرْآنِ، لَا مَسْأَلَةَ امْتِحَانٍ، وَلَكِنْ مَسْأَلَةَ مَعْرِفَةٍ وَتَبْصِرَةٍ. فَأَمْلَى عَلَيَّ أَبِي رَحِمَهُ اللَّهِ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ يَحْيَى وَحْدِي مَا مَعِي أَحَدٌ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَحْسَنَ اللَّهُ عَاقِبَتَكَ أَبَا الْحَسَنِ فِي الأُمُورِ كُلِّهَا، وَدَفَعَ عَنْكَ مَكَارِهَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ بِرَحْمَتِهِ. قَدْ كَتَبْتُ إِلَيْكَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ بِالَّذِي سأل عنه أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَمْرِ الْقُرْآنِ بِمَا حَضَرَنِي. وَإِنِّي أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُدِيمَ تَوْفِيقَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَدْ كَانَ النَّاسُ فِي خَوْضٍ مِنَ الْبَاطِلِ وَاخْتِلافٍ شَدِيدٍ يَنْغَمِسُونَ فِيهِ، حَتَّى أَفْضَتِ الْخِلافَةُ إلى أمير المؤمنين، فنفى الله بأمير الْمُؤْمِنِينَ كُلَّ بِدْعَةٍ، وَانْجَلَى عَنِ النَّاسِ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الذُّلِّ وَضِيقِ الْمَجَالِسِ، فَصَرَفَ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَذَهَبَ بِهِ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَقَعَ ذَلِكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَوْقِعًا عَظِيمًا، -[1060]- وَدَعُوا اللَّهَ لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ يَزِيدَ فِي نِيَّتِهِ، وَأَنْ يُعِينَهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ. فَقَدْ ذُكِرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لا تَضْرِبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُوقِعُ الشَّكَّ فِي قُلُوبِكُمْ. وَذُكِرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ نَفَرًا كَانُوا جُلُوسًا بِبَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ كَذَا؟ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ كَذَا؟ فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَرَجَ كأنما فقئ في وجهه حب الرمان فقال: " «أَبِهَذَا أُمِرْتُمْ أَنْ تَضْرِبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ؟ إِنَّمَا ضَلَّتِ الأُمَمُ قَبْلَكُمْ فِي مِثْلِ هذا. إنكم لستم مما هاهنا فِي شَيْءٍ. انْظُرُوا الَّذِي أُمِرْتُمْ بِهِ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَانْظُرُوا الَّذِي نُهِيتُمْ عَنْهُ، فَانْتَهُوا عَنْهُ.» ".
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مِرَاءٌ فِي الْقُرْآنِ كفر».
وروي عن أبي جهيم، رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «لَا تُمَارُوا فِي الْقُرْآنِ، فَإِنَّ مِرَاءً فِيهِ كُفرٌ». ".
وقال ابن عَبَّاس: قدِم على عمر بن الخطاب رجل، فجعل عُمَر يسأله عن النّاس، فقال: يا أمير المؤمنين قد قرأ القرآن منهم كذا وكذا، فقال ابن عَبَّاس: فقلتُ: والله ما أحبّ أن يتسارعوا يومهم هذا فِي القرآن هذه المسارعة. قال: فَزَبَرَني عُمَر وقال: مَهْ. فانطلقت إلى منزلي مكتئبًا حزينًا، فبينا أَنَا كذلك إذ أتاني رَجُل فقال: أجِبْ أمير المؤمنين. فخرجت فإذا هُوَ بالباب ينتظرني، فأخذ بيدي، فخلا بي وقال: ما الَّذِي كرهت؟ قلت: يا أمير المؤمنين متى يتسارعوا هذه المسارعة يحتقُوا، ومتى ما يحتقوا يختصموا، ومتى ما يختصموا يختلفوا، ومتى ما يختلفوا يقتتلوا. قال: لله أبوك، والله إن كنتُ لأكتُمها النّاس حَتَّى جئتَ بها.
وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ بِالْمَوْقِفِ -[1061]- فَيَقُولُ: " «هَلْ مِنْ رَجُلٍ يَحْمِلُنِي إِلَى قَوْمِهِ، فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي.» ".
وَرُوِيَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: " «إِنَّكُمْ لَنْ تَرْجِعُوا إِلَى اللَّهِ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِمَّا خَرَجَ مِنْهُ، يَعْنِي الْقُرْآنَ.».
وَرُوِيَ عن ابن مسعود أنه قال: جردوا القرآن؛ لا تكتبوا فِيهِ شيئًا إلا كلام اللَّه عزّ وجلّ.
وَرُوِيَ عن عُمَر بْن الخطّاب أنّه قال: إنّ هذا القرآن كلام اللَّه، فضعوه مواضعه.
وقال رجل للحسن الْبَصْرِيّ: يا أَبَا سَعِيد، إنّي إذا قرأت كتاب اللَّه وتدبّرته كدت أن آيس، وينقطع رجائي. فقال: إنّ القرآن كلام اللَّه، وأعمال ابن آدم إلى الضَّعف والتّقصير، فاعمل وأَبْشِر.
وقال فَرْوة بْن نَوْفل الأشجعيّ: كنتُ جارا لخَبّاب، وهو مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فخرجتُ معه يومًا من المسجد وهو آخذ بيدي فقال: يا هَنَاه، تقرَّب إلى الله بما استطعت، فإنك لن تتقرب إليه بشيء أحبُّ إليه من كلامه.
وقال رجل للحكم بن عتيبة: ما حمل أهل الأهواء على هذا؟ قال: الخصومات.
وقال معاوية بْن قُرَّةَ - وكان أَبُوهُ ممّن أتى النَّبِيّ صلى اللَّه عليه وسلم -: إيّاكم وهذه الخصومات فإنها تُحبط الأعمال.
وقال أبو قِلابة - وكان قد أدرك غيرَ واحدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا -[1062]- تجالسوا أهل الأهواء، أو قال: أصحاب الخصومات، فَإِنِّي لا آمَنُ أَنْ يَغْمِسُوكُمْ فِي ضَلالَتِهِمْ، ويُلْبِسوا عليكم بعضَ ما تعرفون.
ودخل رجلان من أصحاب الأهواء على محمد بْن سِيرِينَ فقالا: يا أَبَا بَكْر نحدّثك بحديث؟ قال: لا. قالا: فنقرأ عليك آية؟ قال: لا، لَتَقومان عنّي أو لأقومَنّهُ. فقاما. فقال بعض القوم: يا أَبَا بَكْر، وما عليك أن يقرأ عليك آية؟ قال: إنّي خشيت أن يقرأ عليّ آية فَيُحَرِّفانها، فيقرّ ذلك فِي قلبي، ولو أعلم أنّي أكون مثلي السّاعة لتركتهما.
وقال رَجُل من أهل البِدَع لأيوب السّختيانيّ: يا أَبَا بَكْر أسألك عن كلمة، فولى وهو يقول بيده: لا، ولا نصف كلمة.
وقال ابن طاوس لابن له يكلمه رَجُل من أهل البدع: يا بني، أدخل إصبعيك فِي أذنيك حَتَّى لا تسمع ما يقول. ثُمَّ قال: اشدد اشدد.
وقال عمر بْن عبد العزيز: من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر التنقل.
وقال إبراهيم النخعي: إن القوم لم يدخر عَنْهُمْ شيء خبئ لكم لفضل عندكم.
وكان الحسن يقول: شر داء خالط قلبا، يعني: الأهواء.
وقال حذيفة بْن اليمان: اتقوا اللَّه، وخذوا طريق من كان قبلكم، والله لئن استقمتم لقد سبقتم سبقا بعيدا، ولئن تركتموه يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا، أو قال: مبينا.
قال أبي: وإنما تركت ذكر الأسانيد لما تقدم من اليمين التي قد حلفت بها مما قد علمه أمير المؤمنين. لولا ذاك ذكرتها بأسانيدها. وقد قال اللَّه تعالى: " {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يسمع كلام الله.} [التوبة 6] وقال: {" أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف 54]، فأخبر بالخلق. ثم قال: " والأمر " فأخبر أن الأمر غير الخلق. وقال عز وجل: " {الرحمن} {علم القرآن} {خَلَقَ الإِنْسَانَ} {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن]، فأخبر أن القرآن من علمه. وقال تعالى: " {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة]، وقال: " {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءك من العلم إنك لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة]. وقال تعالى: -[1063]- {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ} [الرعد]. فالقرآن من علم اللَّه. وفي هذه الآيات دليل على أن الَّذِي جاءه هُوَ القرآن، لقوله: " {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ العلم} [البقرة 120].
وقد رُوِيَ عن غيرِ واحد ممّن مضى من السلف أنّهم كانوا يقولون: القرآن كلام اللَّه غير مخلوق. وهو الَّذِي أذهب إليه. لستُ بصاحب كلام، ولا أرى الكلام فِي شيء من هذا، إلا ما كان فِي كتاب اللَّه، أو فِي حَدِيثٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو عن أصحابه، أو عن التابعين. فأما غير ذلك فإن الكلام فيه غير محمود.
قلت: رُواة هذه الرسالة عن أحمد أئمة أثبات، أشهدُ بالله أنّه أملاها على ولده. وأمّا غيرها من الرسائل المنسوبة إليه كرسالة الإصْطَخريّ ففيها نَظَر. والله أعلم.
نام کتاب : تاريخ الإسلام - ت بشار نویسنده : الذهبي، شمس الدين جلد : 5 صفحه : 1049