responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : تاريخ الإسلام - ت بشار نویسنده : الذهبي، شمس الدين    جلد : 4  صفحه : 882
189 - ع: عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظليُّ، مولاهم، التركيُّ، ثمّ المَرْوَزِيُّ الحافظ، [الوفاة: 181 - 190 ه]
فريد الزمان وشيخ الإسلام، وكانت أمُّه خوارزميّة.
مولده سنة ثمان عشرةَ ومائة، وطلب العلم، وهو ابن بضع عشرة سنة، وأقدمُ شيخٍ له الربيع بن أنس الخراساني، ورحل سنة إحدى وأربعين ومائة فلقي التابعين، وأكثر الترحال والتطواف إلى الغاية في طلب العلم والجهاد والحجّ والتجارة.
رَوَى عَنْ: سليمان التيمي، وعاصم الأحول، وحُمَيْد، وهشام بن عُرْوَة، والْجُريّريّ، وإسماعيل بن أبي خالد، والأعمش، وبُريد بن عبد الله، وخالد الحذّاء، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، والأجلح الكِنْديّ، وحسين المعلّم، وحنظلة السَّدُوسيّ، وحَيْوَة بن شريح، والأوزاعي، وابن عَوْن، وابن جُرَيْج، وموسي بن عُقبة، وخلْق من طبقتهم. ثمّ عن: الأوزاعيّ، والثَّوْريّ، وشُعْبة، ومالك، والَّليث، وابن لَهِيعَة، والحمادين، وطبقتهم، ثم عن: هُشَيم، وابن عُيَيْنَة، وخلْق من أقرانه، وصنّف التصانيف النافعة.
وَعَنْهُ: مَعْمر، والثَّوْريّ، وأبو إسحاق الفَزَاريّ - وهم من شيوخه - وبقية، وعبد الرحمن بن مَهْديّ، وأبو داود، وعبد الرزّاق، ويحيى القطّان، وعفّان، وحبّان بن موسى، ويحيى بْن مَعِين، وأبو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة، وأحمد بن منيع، -[883]- وعليّ بن حُجْر، والحسن بن عيسى، والحسين بن الحَسَن المَرْوَزِيّ، والحسن بن عَرَفَة.
وقع لنا حديثه عاليا من وجوه، وأقرب ذلك وأعلاه اليوم من " جزء ابن عَرَفَة ".
قال ابن مهديّ: الأئمة أربعة: مالك، والثَّوْريّ، وحمّاد بن زيد، وابن المبارك.
وقال ابن مهديّ: ابن المبارك أفضل من الثَّوْريّ.
وقال ابن مهدي: حدثنا ابن المبارك، وكان نسيج وحده.
وقال أحمد بن حنبل: لم يكن في زمان ابن المبارك أطلب للعلم منه.
وعن شُعيب بن حرب قال: ما لقي ابنُ المبارك مثل نفسه.
وقال شعبة: ما قدِم علينا مثل ابن المبارك.
وقال أبو إسحاق الفَزَاريّ: ابن المبارك إمام المسلمين.
وقال يحيى بن مَعِين: كان ثقة متثبتا، وَكُتُبُهُ نحوٌ من عشرين ألف حديث.
وقال يحيى بن آدم: كنت إذا طلبت الدّقيقَ من المسائل فلم أجده في كتب ابن المبارك آيستُ منه.
وعن إسماعيل بن عيّاش قال: ما على وجه الأرض مثل ابن المبارك.
قال العباس بن مصعب المروزي: جمع ابن المبارك الحديث، والفقه، والعربية، وأيام الناس، والشجاعة، والسخاء، ومحبة الفرق له.
وقال أبو أسامة: ما رأيت رجلا أطلب للعلم في الآفاق منه.
وقال شعيب بن حرب: سمعتُ سُفيان الثَّوْريّ يقول: لو جهدت جهْديّ أن أكون في السّنة ثلاثة أيّام على ما عليه ابنُ المبارك لم أقدر.
وقال ابن مَعِين: سمعتُ عبد الرحمن يقول: كان ابن المبارك أعلمَ من الثَّوْريّ.
وقال أبو أسامة: ابن المبارك في المحدّثين مثل أمير المؤمنين في النّاس.
قال أسود بن سالم: إذا رأيت من يغمز ابنَ المبارك فاتَّهمه على الإسلام. -[884]-
وقال الحَسَن بن عيسى بن ماسرجس: اجتمع جماعة مثل الفضل بن موسى، ومخلد بن الحسين، ومحمد بن النضر، فقالوا: تعالوا حتّى نَعُدَّ خِصَالَ ابن المبارك من أبواب الخير، فقالوا: العِلم، والفقه، والأدب، والنَّحو، واللغَة، والزُّهْد، والشِعر، والفَصاحة، وقيام الليل، والعبادة، والحجّ، والغزو، والشجاعة، والفُرُوسيّة، والقوّة، وترْك الكلام فيما لا يعنيه، والإنصاف، وقلّّة الخلاف على أصحابه.
قال نعيم بن حماد: قال رجلٌ لابن المبارك: قرأتُ البارحة القرآن في ركعة، فقال ابن المبارك: لكنّي أعرف رجلا لم يزل البارحة يردّد " أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ " إلى الصُّبْح ما قدِر أن يتجاوزها، يعني نفسه.
قال نُعَيم: كان ابن المبارك إذا قرأ كتاب " الرقاق " يصير كأنّه ثور يَخُور من البكاء.
روى العبّاس بن مُصْعَب الحافظ، عن إبراهيم بن إسحاق البُنانيّ، عن ابن المبارك قال: حملتُ العلم عن أربعة آلاف شيخ، فرويت عن ألف، قال العباس: فتتبعتهم حتى وقع لي ثمانمائة شيخ له.
وقال حبيب الجلاب: سألت ابنَ المبارك: ما خيرُ ما أُعطي الإنسان؟ قال: غريزة عقل، قلت: فإن لم يكن؟ قال: حُسْنُ أدب، قلت: فإن لم يكن؟ قال: أخُ شفيق يستشيره، قلت: فإن لم يكن؟ قال: صمتٌ طويل، قلت: فإن لم يكن؟ قال: موتٌ عاجل.
وقال عَبَدان بن عثمان: قال عبد الله: إذا غلبت محاسن الرجال على مساوئه لم تُذكر المساوئ، وإذا غلبت المساوئ على المَحاسن لم تُذكر المحاسن.
قال نُعَيم: سمعتُ ابن المبارك يقول: عجِبت لمن لم يطلب العلمَ كيف تدعوه نفسه إلى مكرُمة.
وقال عَبَدان بن عثمان: سمعته يقول: وُلدتُ سنة تسع عشرة ومائة.
قال العبّاس بن مُصْعَب: كان عبد الله لرجل تاجر من همذان من بني -[885]- حنظلة، فكان إذا قدم همذان يخضع لولده، ويعظمهم.
وقال: وعن ابن المبارك قال: لنا في صحيح الحديث شُغل عن سقيمه.
وقال عبد الله بن إدريس: كلّ حديث لا يعرفه ابن المبارك فنحن منه بُراء.
نُعَيم بن حمّاد: سمعتُ ابنَ المبارك يقول: قال لي أبي: لئن وجدت كتبك خرقتها، قلت: وما عليّ من ذلك وهو في صدري.
وقال علي بن الحسن بن شقيق: قُمتُ لأخرج مع ابن المبارك في ليلة باردة من المسجد، فذاكَرَني عند الباب بحديثٍ، أو ذاكَرْتُه، فما زال يذاكرني، وأذاكره حتّى جاء المؤذن لصلاة الصُّبْح.
وقال فضالة النسوي: كنت أجالسهم بالكوفة، فإذا تشاجروا في حديث قالوا: مروا بنا إلى هذا الطبيب حتّى نسأله، يعنون ابنَ المبارك.
قال وهْب بن زَمْعة: حدَّث جرير بن عبد الحميد بحديثٍ عن ابن المبارك، فقالوا له: يا أبا عبد الحميد، تُحدّث عن عبد الله، وقد لقيت منصور بن المعتمر، فغضب، وقال: أنا مثل عبد الله، حمل علم أهل خُراسان، وأهل العراق، وأهل الحجاز، وأهل اليمن، وأهل الشام؟.
أحمد بن أبي الحَواريّ قال: جاء رجل من بني هاشم إلى ابن المبارك ليسمع منه، فأبى أن يُحدّثه، فقال الهاشميّ لغلامه: يا غلام قُم، أبو عبد الرحمن لا يرى أن يحدّثنا، فلمّا قام ليركب جاء ابن المبارك ليمسك بركابه، فقال: يا أبا عبد الرحمن لا ترى أن تحدّثني وتُمسك بركابي؟ فقال: أذلُّ لك بدني، ولا أذل لك الحديث.
المسيّب بن واضح: سمعت ابن المبارك، وسأله رجلٌ: عمّن نأخذ؟ فقال: قد تَلْقَى الرجلَ ثقة وهو يحدّث عن غير ثقة، وَتَلْقَى الرجلَ غير ثقة يحدث عن ثقة، ولكن ينبغي أن يكون ثقةً عن ثقة.
قال عليّ بن إسحاق بن إبراهيم: قال سُفيان بن عُيَيْنَة: تذكرتُ أمر الصّحابة وأمر عبد الله بن المبارك، فما رأيت لهم عليه فضلا إلا بالصُّحْبة، وبجهادهم.
عن محمد بن أعْيَن: سمعتُ الفضيل بن عِياض يقول: وربّ هذا البيت ما رأت عيناي مثلَ عبد الله بن المبارك. -[886]-
عثمان الدارمي: سمعتُ نُعَيم بن حمّاد، قال: ما رأيتُ ابن المبارك يقول قطّ: حَدَّثَنَا، كان يرى " أخبرنا " أوسع، وكان لا يَرُدّ على أحدٍ حرفًا إذا قرأ.
وقال نُعَيم: ما رأيت أعْقَلَ من ابن المبارك، ولا أكثر اجتهادًا في العبادة منه.
عبد الله بن سِنان، قال: قدِم ابنُ المبارك مكّة وأنا بها، فلمّا أن خرج شيَّعهُ ابنُ عُيَيْنَة، والفضيل وودّعاه، فقال أحدهما: هذا فقيه أهل المشرق، فقال الآخر: وفقيه أهل المغرب.
الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ قَالَ: قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ: " اسْتَقِيمُوا لقريش ما استقاموا لكم "، تفسيره حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ " لا تَقْتُلُوهُمْ مَا صَلَّوْا ".
وَعَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ فِي الإِرْجَاءِ قَالَ: عَنِ ابْنِ شَوْذَبٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ هُزَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَوْ وُزِنَ إِيمَانُ أَبِي بَكْرٍ بِإِيمَانِ أَهْلِ الأَرْضِ لَرَجَحَ، بَلَى إِنَّ الإِيمَانَ يَزِيدُ.
نعيم بن حماد: سمعت ابن المبارك يقول: السيف الذي كان بين الصحابة كان فتنة، ولا أقول لأحدٍ منهم مَفْتُون.
قال عبد العزيز بن أبي رَزْمة: لم تكن خصلة من خِصال الخير إلا جمعت في ابن المبارك: حُسن خُلُق، وحسن صُحبة، والزُّهد، والورع، وكلّ شيء.
وقيل: سُئل ابن المبارك: مَن السِّفْلة؟ قال الذي يدور على القُضاة يطلب الشهادات.
وعنه، قال: إنّ البُصَراء لا يأْمنون من أربع خِصال: ذنب قد مضى لا يُدرَى ما يصنع الربٌ فيه، وعُمرٍ قد بَقِيّ لا يُدرَى ما فيه من الهلكات، وفضل قد أُعطي لعلّه مَكْرٌ واستدراجٌ، وضلالةٌ قد زُيِّنَت له يراها هُدى، وزَيغ قلب ساعة فقد يُسلب دينه ولا يشعر.
وعنه قال: لا أفضل من السَّعي على الْعِيَالِ حتّى ولا الجهاد.
أبو صالح: سمعت ابن المبارك يقول: لا ينتخب على عالم إلا بذَنب.
محبوب بن موسى الأنطاكي: سمعت ابن المبارك يقول: من بخل بالعلم ابتُلي بثلاث: إمّا أن يموت فيذهب عِلمه، أو ينسى، أو يتبع السلطان. -[887]-
منصور بن نافع، صاحبٌ لابن المبارك، قال: كان عبد الله يتصدق لمقامه ببغداد كلّ يوم بدينار.
وعن عبد الكريم السُّكريّ قال: كان عبد الله يعجبه إذا ختم القرآن أن يكون دُعاؤه في السجود.
إبراهيم بن نوح المَوْصليّ، قال: لما قدِم الرشيد عين زَرْبَة أمر أبا سُلَيم أن يأتيه بابن المبارك، قال أبو سُليمان: فقلت: لا آمن أن يُجيب الرشيد بما يكره فيقتله، فقلت: يا أمير المؤمنين هو رجلٌ غليظ الطباع، جلف، فأمسك الرشيد.
الفضل الشعراني: حدثنا عَبْدَةُ بنُ سُليمان: سمعتُ رجلا يسأل ابنَ المبارك عن الرجل يصوم يومًا ويُفْطر يومًا، قال: هذا رجلُ يُضيع نصف عمره، وهو لا يدري، أي لم لا يصومُها.
قلت: فلعلّ عبد الله لم يمرّ له حديث " أفضل الصَّوم صوم داود ".
وقال أبو وهْب: سألت ابنَ المبارك: ما الكِبر؟ قال: أنْ تزدري النّاس، وسألته عن العُجْب؟ قال: أن ترى أنّ عندك شيء ليس عند غيرك، لا أعلم في المصلين شيئًا شرًّا من العُجْب.
وقال إبراهيم بن شمّاس: قال ابن المبارك: ما بَقِيّ على ظهر الأرض عندي أفضل من الفضيل بن عِياض.
حاتم بن الجرّاح: سمعتُ عليّ بن الحسن بن شقيق: سمعت ابن المبارك - وسأله رجلٌ - قال: قُرْحَةٌ خرجتْ في رُكْبتي مذ سبْع سنين، وقد عالجتُها بأنواع العِلاج، وسألت الأطبّاء، فلم أنتفع به. قال: اذهب واحفر بئرًا في مكان حاجة إلى الماء، فإنّي أرجو أن يُنْبع هناك عينًا، ويُمسك عنك الدم، قال: ففعل الرجل، فبرأ.
وقال أحمد بن حنبل: كان ابن المبارك يحدّث من كتاب، فلم يكن له سَقطٌ كثير، وكان وكيع يحدّث من حفْظه، فكان يكون له سَقط، كم يكون حفظ الرجل. -[888]-
وروى غير واحد أنّ ابن المبارك سُئل: إلى متى تكتب العِلم؟ قال: لعلّ الكلمة التي أنتفع بها لم أكتُبْها بعد.
أخبرنا اليونيني، وابن الفراء قالا: أخبرنا ابن صباح، (ح) وأخبرنا يحيى بن الصواف، قال: أخبرنا محمد بن عماد، قالا: أخبرنا ابن رفاعة، قال: أخبرنا الخلعي، قال: أخبرنا ابن الحاج، قال: أخبرنا أبو الفضل محمد بن عبد الرحمن الرَّمْليّ، قال: حدثنا العباس بن الفضل الأسفاطي، قال: حدثنا أحمد بن يونس، قال: سمعتُ ابن المبارك قرأ شيئًا من القرآن ثمّ قال: من زعم أنّ هذا مخلوق فقد كفر بالله العظيم.
قال عَمْرو الناقد: سمعتُ ابن عُيَيْنَة يقول: ما قدِم علينا أحدٌ يُشبه ابن المبارك، ويحيى بن زكريّا بن أبي زائدة.
قال المسيب بن واضح: سمعتُ أبا إسحاق الفَزَاريّ يقول: ابن المبارك إمام المسلمين أجمعين.
وقال موسى التبوذكي: سمعت سلام بن أبي مطيع يقول لابن المبارك: ما خلف بالمشرق مثله.
وقال القواريريّ: لم يكن عبد الرحمن بن مهدي يقدم أحدا في الحديث على مالك، وابن المبارك.
وقال مخلد بن الحسين: جالست ابن عون وأيوب، فلم أجد فيهم من أفضله على ابن المبارك.
وهب بن زمعة: حدثنا معاذ بن خالد قال: تعرفت إلى إسماعيل بن عيّاش بابن المبارك فقال: ما على وجه الأرض مثله، ولا أعلم أن الله خلق خصلة من خصال الخير إلا وقد جعلها في ابن المبارك. ولقد حدثني أصحابي أنهم صحبوه من مصر إلى مكة، فكان يُطعمهم الخبيص، وهو الدّهر صائم.
وقال المسيّب: سمعتُ مُعتَمر بن سُليمان يقول: ما رأيت مثل ابن المبارك، تُصيب عنده الشيء الذي لا يُصاب عند أحد.
وقال جعفر الطّيالسيّ: سألت ابن مَعِين عن ابن المبارك، فقال: ذاك أمير المؤمنين.
وَقَالَ النَّسَائِيُّ: أَثْبَتُ أَصْحَابِ الأَوْزَاعِيِّ ابْنُ الْمُبَارَكِ. -[889]-
سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ: رَأَيْتُ ابْنَ الْمُبَارَكِ أَتَى زمزم فملأ إناء، ثم استقبل الكعبة، فقال: اللهم إن ابن أبي الموال حدثنا، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ أَنّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ "، وَهَذَا أَشْرَبُهُ لِعَطَشِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
كَذَا، والمحفوظ ما رواه الحَسَن بن عيسى، فقال فيه: الَّلهُمّ إنّ عبد الله بن المُؤَمَّلِ، حدثنا عن أبي الزبير، عن جابر، فذكر نحوه.
محمد بن النّضر بن مساور، حدثنا أبي: قلت لابن المبارك: هل تتحفظ الحديث؟ قال: ما تحفظت حديثا قط، إنما آخذ الكتاب فأنظر، فما اشتهيتُه علِق بقلبي.
وقال عَبَدان: قال ابن المبارك في التدليس قولا شديدا، ثم أنشد:
دلس للناس أحاديثَه ... والله لا يقبل تدليسا
وعن ابن المبارك: من استخفّ بالعلماء ذهبت آخرته، ومن استخف بالأمراء ذهبت دنياه، ومن استخف بالإخوان ذهبت مروءته.
عن أشعث بن شُعبة المَصِّيصيّ قال: قدِم الرشيد الرَّقَّةَ، فانجفل النّاس خَلَف ابن المبارك، وتقطّعت النِّعال، وارتفعت الغبرة، فأشرفت أمُّ ولد الخليفة فقالت: هذا واللهِ المُلْك لا مُلْك هارون الذي لا يجمع النّاس إلا بشُرَط وأعوان.
أبو حاتم الرّازيّ: سمعتُ عَبَدة بن سُليمان المَرْوَزِيّ يقول: كنّا في سَريّةٍ مع ابن المبارك في بلاد الروم، فصادفنا العدو، فلما التقى الصفان خرج رجلُ للمبارزة، فبرز إليه رجل فقتله، ثُمَّ آخر فقتله، ثُمَّ آخر فقتله، ثمّ دعا إلى البراز، فخرج إليه رجلٌ فطارده ساعة، ثمّ طعنه فقتله، فازدحم النّاس، فزاحمتُ فإذا هو ملثَّم وجهُهُ، فأخذت بطرف ثوبه فمددْتهُ، فإذا هو عبد الله بن المبارك، فقال: يا أبا عمرو ممن يُشَنّع علينا؟.
وقال محمد بن المثنَّى: حدثنا عبد الله بن سنان قال: كنت مع ابن المبارك، والمعتمر بن سليمان بطرسوس، فصاح النّاس النفير، فخرج ابن المبارك والناس، فلمّا اصطف المسلمون والعدو خرج رومي فطلب البراز، -[890]- فخرج إليه رجلُ، فشدّ العِلْج على المسلم فقتله، حتّى قتل ستة من المسلمين، وجعل يتبختر بين الصَّفّين يطلب المبارزة، ولا يخرج إليه أحد، قال: فالتفت إلى ابن المبارك، وقال: يا فلان، إنّ حَدَثَ بي الموت فافعل كذا وكذا، فحرك دابتهُ وبرز للعِلْج، فعالج معه ساعةً فقتل العِلْج، وطلب المبارزة، فبرز إليه علْج آخر فقتله، حتّى قتل ستة عُلوج، وطلب البراز، قال: فكأنهم كاعوا عنه فضربَ دابته، وطردَ بين الصَّفَّين وغاب، فلم نشعر بشيء إذ أنا بابن المبارك في الموضع الذي كان، فقال لي: يا أبا عبد الله، لئن حدثت بهذا أحدا وأنا حي، فذكر كلمة.
قال الحاكم: أخبرني محمد بن أحمد بن عمر، قال: حدثنا محمد بن المنذر: قال: حدثني عمر بن سعيد الطائي، قال: حدثنا عَمْر بن حفص الصوفي بمنبج قال: سار ابن المبارك من بغداد يريد المصّيصة، فصحبه الصُّوفيّة فقال لهم: أنتم لكم أنفسٌ تحتشمون أن ينفق عليكم، يا غلام هات الطّسْت، فألقى على الطّسْت منديلا ثمّ قال: يُلقي كلُّ رجلٍ منكم تحت المنديل ما معه. قال: فجعل الرجل يُلقي عشرة دراهم، والرجل يلقي عشرين درهما، قال: فأنفق عليهم إلى المصِّيصة. فلمّا بلغ المصّيصة قال: هذه بلاد نفير، فقسم ما بَقِيَ، فجعل يعطي الرجل عشرين دينارًا، فيقول: يا أبا عبد الرحمن: إنما أعطيت عشرين درهما، فيقول: وما تنكر أنّ الله يُبارك للغازي في نفقته.
أحمد بن الحسن المقرئ: حدثنا عبد الله بن أحمد الدورقي، قال: سمعتُ محمد بن عليّ بن الحَسَن بن شقيق قال: سمعتُ أبي قال: كان ابن المبارك إذا كان وقت الحجّ اجتمع إليه إخوته من أهل مرو، فيقولون: نَصْحَبُك، فيقول: هاتوا نفقاتكم، فيجعلها في صندوق، ثمّ يكتري لهم، ويُطعمهم أطيب الطّعام، والحَلْواء، فإذا وصلوا إلى الحرمين وإلى مكة يقول لكلّ منهم: ما أمَرك عيالك أن تشتري لهم؟ فيقول: كذا وكذا، ثمّ لا يزال يُنفق عليهم حتّى يصيروا إلى مَرْو، قال: فَيُجصّص دُورهم، ويصنع لهم وليمةً بعد ثلاث، ثمّ يكسوهم، فإذا أكلوا وشربوا دعا بالصندوق، ويدفع إلى كل رجل منهم صرته عليها اسمه، فأخبرني خادمه أنّه عمل آخر سَفرة سافرها دَعوة، فقدّم إلى النّاس خمسةً وعشرين خِوَانًا فالُوذَج. -[891]-
قال عليّ بن خَشْرم: حدَّثني سَلَمة بن سُليمان قال: جاء رجل إلى ابن المبارك فسأله أن يقضي عنه دَيْنًا، فكتب إلى وكيله؛ فلما ورد عليه الكتاب قال الوكيل للرجل: كم دَيْنُك الذي سألت؟ قال: سبع مائة درهم، قال: فكتب إلى ابن المبارك: إنّ هذا سألك وفاء سبع مائة درهم، وقد كتبتَ إلي بسبعة آلاف درهم، وقد فَنِيَتِ الغلات. فكتب إليه عبد الله: إنْ كانت الغلات فنِيَتْ فإنّ العمر أيضًا قد فني، فأَجْرِ له ما سبق به قلمي.
وروى مثلها أبو الشيخ الحافظ قال: حدثنا أحمد بن محمد بن إبراهيم، قال: حدثنا علي بن محمد بن روح قال: سمعتُ المسيّب بن وضّاح قال: كنتُ عند ابن المبارك، فكلّموه في رجلٍ عليه سبع مائة درهم، فذكر الحكاية، وفيها أنّ كاتبه لما راجَعه في ذلك أضعفَ السَّبعة آلاف.
وفي حكاية أخرى أنّ ابن المبارك قضى عن شابٍّ عشرة آلاف درهم.
قال الفتح بن شخرف: حدثنا عباس بن يزيد، قال: حدثنا حِبّان بن موسى قال: عُوتب ابن المبارك فيما يفّرق من الأموال في البلدان، ولا يفعل في مرو؛ فقال: إني أعرف مكان قومٍ لهم فضل وصِدْق، طلبوا الحديث فأحسنوا الطَّلَب، يحتاج النّاس إليهم، احتاجوا، فإنّ تركتُهُم ضاع عِلْمهم، وإنّ أعَنّاهم بثّوا العِلم، ولا أعلم بعد النُّبُوَّة أفضل من بث العِلم.
إبراهيم بن بشّار الخراساني: سمعتُ عليّ بن الفُضَيْلِ يقول: سمعتُ أبي يقول لابن المبارك: تأمرنا بالزهد والتقلل، ونراك تأتي بالبضائع إلى البلد الحرام، كيف ذا؟ قال: إنّما أفعل ذلك لأصون به وجهي، وأُكرم به عِرْضي، وأستعين به على الطّاعة، لا أرى لله حقًا إلا سارعتُ إليه، فقال له أبي: ما أحسن ذا إنْ تمّ.
وقال نُعَيم بن حمّاد: كان ابن المبارك يكثر الجلوس في بيته، فقيل له: ألا تستوحش؟ فقال: كيف استوحش وأنا مع النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه.
قَالَ عُبَيْد بن جنّاد: قال لي عطاء بن مسلم: رأيتَ ابن المبارك؟ قلت: نعم! قال: ما رأيت، ولا ترى مثله.
وقال عبيد بن جناد: سمعت العمري يقول: ما في دهرنا من يصلح لهذا الأمر إلا ابن المبارك. -[892]-
وقال شقيق البلْخيّ: قيل لابن المبارك: إذا صلَّيتَ معنا لم تقف، قال: أجلسُ مع الصحابة والتّابعين، فما أصنع معكم، أنتم تغتابون النّاس.
وعن ابن المبارك: ليكن الذي تعتمدون عليه الأَثَر، وخُذوا من الرأي ما يفسّر لكم الحديث، وكان قد تفقه بأبي حنيفة، وغيره.
وعنه، قال: حب الدنيا في القلب، والذنوبُ قد احتوشته، فمتى يصل إليه الخير؟.
وعنه قال: لو أن رجلا اتقى مائة شيء، ولم يتق شيئا واحدا، لم يك من المتقين، ولو تورع عن مائة شيء سوى شيء، لم يكن من الورعين، ومن كانت فيه خلة من الجهل، كان من الجاهلين، أما سمعت الله يقول لنوح في شأن ابنه: " إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ".
وَسُئِلَ: من النّاس؟ قال: العلماء! قيل: فمن الملوك؟ قال: الزُّهّاد! قيل: فمن الغَوْغاء؟ قال: خُزَيْمَة وأصحابه! قيل: فمن السُّفَهاء؟ قال: الذين يعيشون بدينهم!،
وَعَنْهُ: قال: لِيَكُنْ مجلسك مع المساكين، وإيّاك أن تجلس مع صاحب بِدْعة.
وعنه قال: إذا عرف الرجل قدر نفسه صار أذلّ من كلب.
قال أبو أُميّة الأسود: سمعتُ عبد الله يقول: أحبُّ الصالحين ولستُ منهم، وأبغض الطالحين وأنا شرُّ منهم، ثمّ أنشأ يقول:
الصَّمْتُ أزْيَنُ بالفتى ... من منطقٍ في غير حِينِهِ
والصِّدْق أجملُ بالفتى ... في القول عندي من يمينه
وعلى الفتى بوَقارِهِ ... سمَةٌ تَلُوحُ على جبينِه
فمن الذي يخفى عليك ... إذا نظرتَ إلى قرينِهْ
رُبّ امرئٍ مُتَيَقِّنٍ ... غلب الشَّقَاءُ علي يقينِه -[893]-
فأزاله عن رأيهِ ... فابتاع دُنياه بدينِه
قال ابن المبارك: رُبّ عملٍ صغير تُكبّره النيّة، ورُبّ عمل كبير تصغّره النيّة.
وقال الحَسَن بن الربيع: لمّا احتضر ابن المبارك في السَّفَر قال: أشتهي سَوِيقًا، فطلبناه له، فلم نجدْه إلا عند رجل كان يعمل للسلطان، فذكرناه لعبد الله فقال: دَعُوه، فمات ولم يشربْه.
قال العلاء بن الأسود: ذُكر جَهْمٌ عند ابن المبارك فقال:
عجِبتُ لشيطانٍ أتى النّاس داعيًا ... إلى النّار واشتُقَّ اسمُهُ من جَهنَّم
قال عليّ بن الحَسَن بن شقيق: سمعتُ ابن المبارك يقول: إنا لنحكي كلامَ اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية.
أخبرنا إسحاق بن طارق، قال: أخبرنا ابن خليل، قال: أخبرنا عبد الرحيم بن محمد، قال: أخبرنا أبو علي المقرئ، قال: أخبرنا أبو نعيم الحافظ، قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: سمعت أبا يحيى يقول: سمعتُ عليّ بن الحَسَن بن شقيق يقول: قلت لابن المبارك: كيف تعرفُ ربَّنا - عزّ وجلّ-؟ قال: في السماء على العرش، ولا نقول كما قالت الجهمية: هو معنا ههنا.
قال أبو صالح الفرّاء: سألت ابن المبارك عن كتابة العِلم، فقال: لولا الكتاب ما حفِظْنا. وسمعته يقول: الحِبْرُ في الثوب خُلُوقُ العُلماء.
وقال: تواطُؤُ الْجِيران على شيءٍ أحَبُّ إلي من عَدْلَيْن.
ويقال: مَرَّ ابن المبارك براهب عنده مقبرةٍ ومزْبلةٍ، فقال: يا راهبُ عندك كنز الرجال، وكنز الأموال، وفيهما مُعْتَبٌر.
وقد كان ابن المبارك غنيًّا شاكرًا، رأسُ ماله نحوٌ من أربع مائة ألف. قال حبان بن موسى: رأيتُ سُفرة ابن المبارك حُملت على عَجَلَةٍ.
وقال أبو إسحاق الطّالقانيّ: رأيتُ بعيرَين محمَّلين دجاجًا مشْوِيًا لسُفْرة ابن المبارك.
وروى عبد الله بن عبد الوهّاب، عن ابن سهم الأنطاكيّ قال: كنت مع ابن -[894]- المبارك، فكان يأكل كلّ يوم فيُشوي له جدي، ويتخذ له فالوذق، فقيل له في ذلك، فقال: إنّي دفعتُ إلى وكيلي ألف دينار، وأمرته أن يوسّع علينا.
قال الحَسَن بن حمّاد: دخل أبو أسامة على ابن المبارك، فوجَدَ في وجهه أثر الضُّرّ، فلمّا خرج بعث إليه أربعة آلاف دِرهم، وكتب إليه:
وَفَتًى خلا من مالِه ... ومن المروءة غير خالي
أعطاك قبل سؤاله ... وكفاك مكروه السؤالِ
قال المسّيب بن وضّاح: أرسل ابن المبارك إلى أبي بكر بن عيّاش أربعة آلاف درهم، فقال: سُدّ بها فتنة القوم عنك.
وقال عليّ بن خَشْرَم: قلت لعيسى بن يونس: كيف فَضَلَكُم ابن المبارك ولم يكن بأسَنَّ منكم؟ قال: كان يقدم ومعه الغلمة الخُراسانيّة والبِزة الْحَسَنَةُ، فيصِل العلماءَ ويُعطيهم، وكنّا لا نقدر على ذلك.
وقال نُعَيم بن حمّاد: قدِم ابن المبارك أيلة على يونس بن يزيد، ومعه غلامُ مفرَّغ لضرب الفالوذَج، يتَّخذه للمحدّثين.
أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ سلامة، عن عبد الرحيم بن محمد، قال: أخبرنا الحسن بن أحمد، قال: أخبرنا أبو نعيم، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الله، قال: حدثنا نعيم بن حماد، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: حدثنا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الْبَرَكَةُ مَعَ أَكَابِرِكُمْ ". فَقُلْتُ لِلْوَلِيدِ: أَيْنَ سَمِعْتَهُ مِنَ ابْنِ الْمُبَارَكِ؟ قَالَ: فِي الْغَزْوِ.
وَبِهِ إِلَى أَبِي نُعَيْمٍ: حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان البصري، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد الدورقي، قال: حدثنا أحمد بن جميل، قال: حدثنا ابن المبارك قال: حَدَّثَنِي صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، أَنَّ أَبَا الْمُثَنَّى الْمُلَيْكِيَّ حَدَّثَهُ، عَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " الْقَتْلَى ثَلاثَةٌ: رَجُلٌ مُؤْمِنٌ جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، حَتَّى إِذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى يُقْتَلَ، فَذَلِكَ الممتحن في خيمة لله تَحْتَ عَرْشِهِ، لا يَفْضُلُهُ النَّبِيُّونَ إِلا بِدَرَجَةِ النبوة، ورجل -[895]- موقن فَرَقَ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا، جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ حَتَّى إِذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ قُتِلَ، فتلك مصمصة مَحَتْ ذُنُوبَهُ وَخَطَايَاهُ، إِنَّ السَّيْفَ مَحَّاءٌ لِلْخَطَايَا، وَأُدْخِلَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَ، فَإِنَّ لَهَا ثَمَانِيَةَ أَبْوَابٍ، وَلِجَهَنَّمَ سَبَعَةٌ، وَرَجُلٌ مُنَافِقٌ جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، حَتَّى إِذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ قَاتَلَ فَقُتِلَ، فَذَلِكَ فِي النَّارِ، إِنَّ السَّيْفَ لا يَمْحُو النِّفَاقَ ".
وَبِهِ قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ، وحدثناه سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ فِي جماعة قالوا: حدثنا أبو شعيب الحراني، قال: حدثنا يحيى البابلتي، قال: حدثنا صفوان بن عمرو بهذا.
وقد كان عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من فُحُولِ الشعراء المحسنين.
قال عبد الله بن محمد قاضي نصيبين: حدَّثني محمد بن إبراهيم بن أبي سُكينة قال: أملى عليّ ابن المبارك بطَرَسُوس، وودَّعْتُه، وأنفذها معي إلى الْفُضَيْلِ بن عِياض في سنة سبع وسبعين ومائة، هذه الأبيات:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا ... لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب جيده بدموعه ... فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يبعث خيله في باطل ... فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا ... رهج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نبينا ... قَوْل صحيح صادق لا يكذب
لا يستوي وغبار خيل الله في ... أنف أمرئ ودخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا ... ليس الشهيد بميت لا يكذب
فلقيت الْفُضَيْلَ بكتابه في الحَرَم، فلمّا قرأه ذرفت عيناه، ثمّ قال: صدق أبو عبد الرحمن ونصح.
وروى إسحاق بن سنين لابن المبارك:
إني امرؤ ليس في ديني لِغامِزه ... لِينٌ ولستُ على الإسلام طعانًا
فلا أسب أبا بكر ولا عمرًا ... ولن أسب معاذ الله عثمانا
ولا ابن عم رسول الله أشتمه ... حتى ألبس تحت الترب أكفانا -[896]-
ولا الزُّبَير حواري الرسول، ولا ... أهدي لطلحة شتمًا عز أو هانا
ولا أقول عليّ في السحاب إذا ... قد قلت والله ظلمًا ثمّ عدوانًا
ولا أقول بقول الجهم إنّ له ... قولا يضارع أهل الشرك أحيانا
ولا أقول تخلى من خليقته ... رب العباد وولى الأمر شيطانا
ما قال فرعون هذا في تجبره ... فرعون موسى ولا هامان طغيانا
وهي قصيدة طويلة منها:
الله يدفعُ بالسلطان معضلة ... عن ديننا رحمة منه ورضوانا
لولا الأئمة لم تأمن لنا سبل ... وكان أضعفنا نهبا لأقوانا
فقيل: إنّ الرشيد أعجبه هذا، فلمّا بلغه موت ابن المبارك بِهْيت قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، يا فضل ائذن للناس يعزونا في ابن المبارك، أليس هو القائل:
الله يدفع بالسلطان معضلة
وذكر البيتين من الذي يسمع هذا من ابن المبارك ولا يعرف حقنا.
قال ابن سهم الأنطاكي: سمعت ابن المبارك ينشد:
وطارت الصحف في الأيدي مُنشَّرةً ... فيها السرائر والجبار مطلع
فكيف سهوك والأنباء واقعة ... عما قليل ولا تدري بما تقع
إما الجنان، وعيش لا انقضاء له ... أم الجحيم فلا تبقي ولا تدع
تهوي بساكنها طورا وترفعه ... إذا رجوا مخرجًا من غمها قمعوا
لينفع العلم قبل الموت عالمه ... قد سال قوم بها الرجعى فما رجعوا
قلت: ومنها، وهي طويلة:
فكيف قَرَّت لأهل العلم أعيُنُهُم؟ ... أو استَلَذُّوا لذيذ النَّوْم أو هَجَعُوا
والنّارُ ضاحيةٌ لا بُدّ مَوْرِدُها ... وليس يَدْرُون مَن يَنْجُو ومَن يَقَعُ
قال سَلْم الخَوّاص: أنشدنا ابن المبارك:
رأيتُ الذنوب تميت القلوب ... ويتبعها الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب ... وخيرٌ لنفسك عصيانها
وهل بدَّل الدِّين إلا الملوكُ ... وأحبارُ سوءٍ ورُهبانها
وباعوا النفوس ولم يربحوا ... ببيعهم النفس أثمانها -[897]-
لقد رتع القوم في جيفة ... يبين لذي اللب إنتانُها
قال أحمد بن جميل المَرْوَزِيّ: قيل لابن المبارك: إنّ ابن عُلَيَّة قد ولي الصدقة، فكتب إليه:
يا جاعلَ العِلم له بَازِيًا ... يصطادُ أموالَ المساكينِ
احْتَلْتَ لِلدُّنيا، ولَذّاتِها ... بحِيلَةٍ تَذْهَبُ بالدِّين
فَصِرَت مجنونًا بها بعدما ... كُنتَ دواءً للمجانينِ
أين رِواياتُك في سَرْدِها ... عن ابنِ عونٍ، وابنِ سِيرين
أين رواياتك فيما مضى ... في تركِ أبوابِ السَّلاطينِ
إنّ قلتَ أُكْرِهْتُ فماذا كذا ... زلّ حِمارُ العلمِ في الطِّينِ
ولابن المبارك:
جَرَّبت نفسي فما، وجدتُ لها ... من بعد تَقْوَى الإلهِ كالأدبِ
في كُلِّ حالاتِها، وإنْ كَرِهَتْ ... أفْضَلَ من صَمْتها عن الكذِب
أو غيبةِ النّاسِ إنّ غِيبَتَهُم ... حَرَّمَها ذو الْجَلال في الكُتُب
قلت لها طائعا، وأكرهها ... الْحِلْمُ وَالْعِلْمُ زينُ ذي الحَسَب
إنْ كان مِن فضةٍ كلامُك يا ... نَفْسُ فإنّ السُّكُوت من ذَهَبِ
قال السَّرَاج الثَّقفيّ: أنشدني يعقوب بن محمد لابن المبارك:
أبإذن نزلت بي يا مشيب؟ ... أي عيش، وقد نزلت يطيب
وكفى الشيب واعظًا غير أني ... آمل العيش، والممات قريب
كم أنادي الشباب إذ بان مني ... وندائي موليا ما يجيب

وبه:
يا عائب الفقر ألا تزدجر ... عيب الغنى أكثر لو تعتبر
من شرف الفقر، ومن فضله ... على الغنى إنّ صح منك النظر
إنك تعصي لتنال الغنى ... وليس تعصي الله كي تفتقر
وقال حِبّان بن موسى: سمعتُ عبد الله ينشد:
كيف القرارُ، وكيف يهدأُ مسلمٌ ... والمسلماتُ مع العدوّ الْمُعْتَدِي
الضاربات خدودهن برنة ... الداعيات نبيهن محمد -[898]-
القائلات إذا خشين فضيحة ... جهد المقالة ليتنا لم نولد
ما تستطيع، وما لها من حيلة ... إلا التستر من أخيها باليد
وله:
كل عيش قد أراه نكدا ... غير ركز الرمح في فيء الفرس
وركوبي في ليال في الدجى ... أحرس القوم، وقد نام الحرس
أبو إسحاق الطّالقانيّ قال: كنّا عند عبد الله فانهد القهندز، فأتي بسنين فوجد، وزن أحدهما منوان، فقال عبد الله:
أتيت بسنين قد رمتا ... من الحِصْن لمّا أثاروا الدَّفينا
على وزْن مَنْوَيْنِ إحداهُما ... تُقِلُّ به الْكَفُّ شيئًا رَزينا
ثلاثون سِنّا على قَدْرِها ... تباركْتَ يا أحسَنَ الخالقِينا
فماذا يقومُ لأفواهها ... وما كان يملأ تلك البطونا
إذا ما تذكرتُ أجسامهم ... تَصَاغَرَتِ النَّفسُ حتّى تَهُونا
وكلُّ على ذاك ذاقَ الرَّدَى ... فبادُوا جميعًا فهم هامدُونا
ومن طُرق، عن ابن المبارك، ويُقال بل هي لحُمَيْد النحوي:
اغتنِمْ رَكْعَتَيْنِ زُلْفَى إلى الله ... إذا كُنت فارغا مُسْتَريحًا
وإذا ما هَمَمْتَ بالنُّطْق بالباطلِ ... فاجْعَلْ مكانه تسبيحا
فاغْتِنامُ السُّكُوتِ أفضلُ من ... خَوْضٍ، وإنْ كنتَ بالكلام فصيحا
عَبَدان بن عُثمان، عن ابن المبارك أنّه كان يتمثَّل:
وكيف تحبُّ أن تُدعى حليمًا ... وأنتَ لكلّ ما تَهْوَى ركوبُ
وتضحكُ دائمًا ظهرًا لبطنٍ ... وتَذْكرُ ما عَمِلْتَ فلا تَتُوبُ
وسُمع ابن المبارك وهو يُنشد فوق سور طَرَسُوس:
ومِن البلاءِ وللبلاءِ علامةٌ ... أن لا يُرَى لك عن هَوَاك نُزُوعُ
العبدُ عبدُ النَّفْس في شَهَواتها ... والحُرّ يشبع مرّةً ويَجُوعُ
قال أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعِجْلِيُّ: حَدَّثَنِي أَبِي قال: لما احتضر ابن المبارك -[899]- جَعَلَ رجُلٌ يلقِنُه: قل لا إله إلا الله، فأكثر عليه، فقال: لستَ تُحِسن، وأخاف أن تؤذي مسلمًا بعدي إذا لقَّنْتني فقلت: لا إله إلا الله ثمّ لم أُحدِث كلامًا بعدها فَدَعْني، فإذا أحدثْتُ كلامًا بعْدَها فلقِّنِّي حتّى تكون آخر كَلامي.
وقيل: إنّ الرشيد لما بَلَغَه موتُ ابن المبارك قال: مات اليوم سيّدُ العلماء.
قال عَبَدان بن عثمان: خرج عبد الله إلى العراق أول شيء سنة إحدى وأربعين ومائة، ومات بِهِيت، وعَانَات في رمضان سنة إحدى وثمانين ومائة.
وقال حسن بن الربيع: قال لي ابن المبارك قبل أن يموت: أنا ابن ثلاثٍ وستين.
وقال أحمد بن حنبل: ذهبتُ لأسمع من ابن المبارك فلم أُدْرِكْه، وكان قد قدِم فخرج إلى الثِّغْر، ولم أره.
قال محمد بن فُضَيْلِ بن عياض: رأيت ابن المبارك في النوم فقلت: أي العمل أفضل؟ قال: الأمر الذي كنتُ فيه.
قلت: الرباط، والجهاد؟ قال: نعم، قلت: فما صنع بك ربُّك؟ قال: غفر لي مغفرةً ما بعدها مَغْفِرة، رواها اثنان عن محمد.
وقال العبّاس بن محمد النسفي: سمعت أبا حاتم الفربري يقول: رأيت ابن المبارك واقفًا على باب الجنّة بيده مُفتاح، فقلت: ما يُوقِفُك هاهنا؟ قال: هذا مفتاح الجنّة دفعه إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: حتّى أزور الرَّبَّ تعالى، فكن أميني في السماء كما كنت أميني في الأرض.
وقال إسماعيل بن إبراهيم المصّيصيّ: رأيت الحارث بن عطية في النوم فسألته، فقال: غُفر لي، قلت: فابنُ المبارك؟، قال بخٍ بخٍ، ذاك في عِلِّيِّين ممّن يلج على الله كلّ يومٍ مرّتين.
وقال أبو هشام الرفاعي: حدثنا ليث بن هارون، عن نوفل قال: رأيت ابن المبارك في النوم، فقلت: ما فعل بك ربك؟ قال: غفر لي برحلتي في الحديث، عليك بالقرآن، عليك بالقرآن، قلت: ما فعل سُفيان الثَّوْريّ؟ قال: ذاك عندهم في مكان رفيع. -[900]-
وقال علي بن أحمد السواق: حدثنا زكريّا بن عَدِيّ قال: رأيت ابن المبارك فِي النوم، فقلتْ: ما فعل اللَّه بك؟ قال: غفر لي برحلتي.
ولبعضهم، وهو الوزير ابن المغربيّ:
مررتُ بقبر ابن المبارك بكرةً ... فأوسَعَني وعْظًا وليس بناطقِ
وقد كنت بالعِلْم الّذي في جوانحي ... غنّيًا، وبالشَّيْب الذي في مَفَارِقي
ولكنْ أرى الذِّكْرَى تُنّبه غافلا ... إذا هي جاءت من رجالِ الحقائقِ

نام کتاب : تاريخ الإسلام - ت بشار نویسنده : الذهبي، شمس الدين    جلد : 4  صفحه : 882
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست