معزوا إلى أصوله وصحابته، مع شدة استحضار له وقت إقامة الدليل، وفاق الناس في معرفة الفقه واختلاف المذاهب، وفتاوى الصحابة والتابعين، بحيث أنه إذا أفتى لم يلتزم بمذهب بل بما يقوم دليله عنده، وأتقن العربية أصولا وفروعا وتعليلا واختلافا، ونظر في العقليات، وعرف أقوال المتكلمين، وردّ عليهم، ونبه على أخطائهم، وحذّر منهم، ونصر السنة بأوضح حجج وأبهر براهين.
وأوذي في ذات الله من المخالفين، وأخيف في نصر السنة المحضة، حتى أعلى الله مناره، وجمع قلوب أهل التقوى على محبته والدعاء له، وكبت أعداءه، وهدى به رجالا من أهل الملل والنحل، وجبل قلوب الملوك والأمراء على الانقياد له غالبا، وعلى طاعته، وأحيى به الشام، بل الإسلام، بعد أن كاد ينثلم بتثبيت أولي الأمر لما أقبل حزب التتر والبغي في خيلائهم، فظنت بالله الظنون، وزلزل المؤمنون، واشرأبّ النفاق وأبدى صفحته، ومحاسنه كثيرة، وهو أكبر من أن ينبه على سيرته مثلي، فلو حلفت بين الركن والمقام، لحلفت: أني ما رأيت بعيني مثله، وأنه ما رأى مثل نفسه.
قال الذهبي: وقد قرأت بخط شيخنا العلامة كمال الدين بن الزملكاني، ما كتبه سنة بضع وتسعين تحت اسم «ابن تيمية» كان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع: أنه لا يعرف غير ذلك الفن، وحكم أن أحدا لا يعرفه مثله.
وكان الفقهاء من سائر الوظائف إذا جالسوه استفادوا في مذاهبهم منه أشياء كثيرة، ولا يعرف أنه ناظر أحدا فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم- سواء كان من علم
الشرع أو غيره- إلا فاق فيه أهله، واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها.
وأما تصانيفه رحمه الله فهي أشهر من أن تذكر، وأعرف من أن تنكر.