القرائح وجدب الأفكار وضعف القوى الحافظة، وانحطت طرائق التلقين تبعًا لذلك وانحصرت في الطريق الشائعة إلى اليوم. وهي التزام كتاب تتعدّد نسخه بتعدّد المتلقين له يحل الشيخ عباراته ويشرح معانيه. وانحطت وظيفة السامعين من الكتابة والتقييد إلى الاستماع المجرد.
ولسنا نعيب طريقة التزام الكتب وشرح معانيها بالكلام، فذلك في حقيقته نوع قاصر من الإملاء. وإنما ننعي على السامعين إهمالهم لكتابة ما يسمعون فتضيع عليهم الفوائد التي يلقيها الأستاذ وقد تكون قيّمة، كما تضيع في عصرنا هذه الخطب والمحاضرات المرتجلة التي لا يكتبها ملقيها ولا متلقيها.
ولسنا بصدد التأريخ لهذه الطرائق والمقارنة بينها وبيان وجوه النقص والكمال فيها وإنما ننبّه في هذا المقام إلى أن أسوأ أثر لهذه الطريقة الشائعة اليوم هو القضاء على الملكة العلمية، لأنها شغلت المعلم والمتعلم معًا بالكتاب عن العلم إذ أصبح همّهما كله مصروفًا إلى تحليل الكتاب وفكّ عباراته والقيام على اصطلاحاته الخاصة وفي بعض هذا ما يستغرق الوقت ولا يُبقي سعة لإدراك قواعد العلم وتطبيق جزئياته على كلّياته، وبعيد جدًا على من يدرس علمًا على هذه الطريقة أن تستحكم ملكته فيه، وكيف تستحكم ملكة الفقه مثلًا لمن يقرؤه من مثل مختصر خليل على هذه الطريقة فيمضي وقته في تحليل عباراته وتراكيبه المعقدة التي ذهب الاختصار بكثير من أجزائها وفي بيان التقديم والتأخير في الألفاظ وربط المعمولات بالعوامل البعيدة وإرجاع الضمائر المختلفة إلى مراجعها. والطفرة بالذهن من مذكور إلى مقدر، وهذا هو كل ما يشغل وقت المعلم والمتعلم، وهم في الحقيقة لا يدرسون علم الفقه وإنما يدرسون كتابًا في الفقه، ودراسة الكتب لذاتها أصبحت اليوم فنًّا كماليًّا من التَّاريخ لا أصلًا في تعلّم العلوم.
والدارس لتاريخ العلوم الإسلامية يتجلّى له هذا في تراجم علماء تلك العلوم، إذ يجد فيها دائمًا أشباه هذه العبارة: