responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : أرشيف ملتقى أهل الحديث - 5 نویسنده : ملتقى أهل الحديث    جلد : 1  صفحه : 486
وليس عدم شمول قواعد علم الحديث لجميع جزئياته، ولا عدم وجود قواعد أصلاً لبعض مسائله، بسبب تقصير في تقنين هذا العلم وفي تأصيله من علماء الأمة؛ بل سببه هو بلوغهم به أقصى غايات التقعيد السليم والتأصيل الصحيح!! وذلك أن علم الحديث مادته الخام هي البشر ونقولهم وأخبارهم، وللبشر باختلاف مواهبهم الخلقية، وبتباين دوافعهم وعقائدهم وسلوكياتهم، وباضطراب أحوالهم من وقت لآخر، وبما يطرأ عليهم من عوامل تغيير نفسية وخارجية؛ بذلك كله لا يمكن أن يكون لنقول هؤلاء وأخبارهم ضوابط حسابية وموازين رياضية، بل لابد من التعامل مع تلك المادة المتباينة الأجزاء، الكثيرة التغيرات في كل جزء منها، بما يتناسب وذلك؛ وهذا هو ما فعله أئمة الحديث في عصور تكوين علمهم …. رضي الله عنهم وأرضاهم!!

المهم أن تعلم أن هذه إحدى أعظم مميزات علم الحديث.

وهذه الميزة تعتي:
أن تعلم قواعد علم الحديث ودراسة مصطلحه ليس سوى الخطوة الأولى في طلب علم الحديث، مهما تعمق الدارس في تحصيل تلك القواعد والأصول.
وما جنى على علم الحديث شيء في العصر الحديث مثل الغفلة عن هذه الحقيقة، وذلك بالتعامل مع الروايات الحديثية بتلك القواعد معاملة من معه قوالب يصب فيها مادته الخام ومعاملة من معه ختوم جاهزة يطبع بها كل مسألة جزئية، دون أن يتنبه إلى أن لكل قاعدة شذوذات، بل يختلق القواعد لما ليس له قاعدة، لعدم استطاعته إلا التعامل مع اقوالب الجاهزة!!

وهذه الميزة تعني أيضاً:
أن علم الحديث علم حي لا يعيش وينمو في صدر رجل إلا بالممارسة له والتطبيق العملي لقواعده. لأن شذوذات القواعد (وهي كثيرة وإنما سميت شذوذات لأنها بخلاف القاعدة المنصوص عليها)، والمسائل التي لا قواعد لها، لا يحسن الوقوف عليها، ولا يعرف المآخذ والأسس التي تبنى عليها أحكامها، ولا يلحظ الملابسات والقرائن الخاصة بكل مسألة جزئية منها؛ إلا من عاش علم الحديث تطبيقاً عملياً وممارسة عميقة فترة طويلة من عمره.

وعلى هذا فعلم الحديث يحتاج كل الاحتياج لممارسة طويلة، وتطبيق عملي عميق، ليمكن طالب الحديث بعد مرور زمن طويل من ذلك أن يتنبه لشذوذات القواعد وملابساتها، وأن يقف بنفسه على مآخذ الأحكام في المسائل التي لا قواعد لها وإنما يرجع فيها للقرائن الخاصة بكل مسألة.

يقول الخطيب البغدادي، منبها على أهمية الممارسة العملية في علم الحديث: "قل ما يتمهر في علم الحديث، ويقف على غوامضه، ويستنير الخفي من فوائده، إلا من جمع بين متفرقه، وألف متشتته، وضم بعضه إلى بعض، وانشغل بتصنيف أبوابه، وترتيب أصنافه. فإن ذلك الفعل مما يقوي النفس، ويثبت الحفظ، ويذكي القلب، ويشحذ الطبع، ويبسط اللسان، ويجيد البيان، ويكشف المشتبه، ويوضح الملتبس، ويكسب أيضاً جميل الذكر، وتخليده إلى آخر الدهر ". ثم أسند الخطيب إلى عبد الله بن المبارك، أنه قال: "صنفت من ألف جزء جزءاً، ومن نظر في الدفاتر فلم يفلح، فلا أفلح هو أبداً" ().

وهيئة هذه الممارسة التي نطالب بها طالب علم الحديث، هي: أن يقوم الطالب بما يشبه التصنيف والتأليف، إما بتخريج أحاديث كتاب ما أو أحاديث باب فقهي معين، أو بالترجمة لرواة كتاب لم يخدم رواته بالترجمة، أو بالعناية بالرواة المختلف فيهم، أو بجمع أقوال الأئمة وتطبيقاتهم حول قاعدة من علم الحديث أو حول أحد مصطلحاته .. ونحو ذلك من الموضوعات الكثيرة جداً. والأفضل أن ينوع في طبيعة بحوثه، حتى يستفيد فائدة أعم وأشمل.

وبالطبع لا يكون غرضه من هذه البحوث هو تأليف كتاب يخرجه للناس، خاصة في مرحلة تكوينه العلمي، وإنما يكون غرضه من ذلك التعلم والتمرن، للفوائد التي ذكرها الخطيب في كلامه السابق عن الممارسة العملية في علم الحديث.

ولا يمنع ذلك من أن يبتدىء طالب الحديث مشروعاً علمياً كبيراً، من صغر سنه وبدايات طلبه، يجمع له ويرتب ويناقش ويستنبط ويستدل، ويقضي في ذلك عمراً من عمره، وبشرط أن لا يخرج مشروعه هذا إلا بعد بلوغه من العلم ما يكون قد وصل به إلى درجة الإفادة، كأن يشهد له شيوخه وأقرانه باستحقاقه أن يدلي بجهده في تأليف كتاب.
بل إني لأشدد في النصح لطلبة العلم بابتداء مشاريع من هذا القبيل، ولا يستخفوا بأنفسهم؛ فقد كان الإمام الزهري يقول للفتيان والشباب: "لا تحقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم، فإن عمر بن الخطاب كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان، فاستشارهم، يبتغي حدة عقولهم" ().

ولك في سيرة العلماء قدوة:

فقد بدأ الإمام البخاري تصنيفه للتاريخ الكبير وله من العمر ثمانية عشر عاماً، وبقي في تصنيفه وتحسينه غالب حياته. أما (صحيحه) فمكث في تصنيفه ستة عشر عاماً.

وابتدأ ابن عساكر تصنيف (تاريخ دمشق) بمجلداته الثمانين من صباه، واستمر في جمعه إلى أن شاخ.

وأفنى الطبراني عمره المديد (فقد عمر مائة سنة) في معجمه الأوسط.
فعليك يا طالب العلم أن تختار مشروعاً علمياً حديثياً نافعاً، واستشر العلماء والمأمونين في اختيارك، وابدأ في الجمع له والتأليف من فترة مبكرة، ولا تفوت العمر. ثم أنت خلال هذا الجمع تمارس علم الحديث عملياً، وتطبقه واقعياً؛ فتستفيد فائدتين، بل فوائد، وتعلي همتك، وتقوي عزمك، وتبذل جهدك في طلبك العلم، وتطرد الملل والسأم وقلة الصبر، بما يتجدد لك في بحثك من فوائد، تنظر قطف ثمرتها في مستقبل حياتك العلمية إن شاء الله تعالى.
¥

نام کتاب : أرشيف ملتقى أهل الحديث - 5 نویسنده : ملتقى أهل الحديث    جلد : 1  صفحه : 486
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست