فتجمع العلم الغزير في النظم اليسير، حتى إنّك لتعجب من العلاّمة ابن مالك ينظم عشرين حرفا من حروف الجرّ في بيتين! وترى السيوطي يأتي بثلاثة من المذاهب ويرجّح واحدا منها في بيت واحد كقوله في [ألفية الحديث] التي نظمها في خمسة أيام:
والمسنَدُ المَرفوعُ ذا اتصالِ وقيل: أوّلٌ. وقيل: التالي
وهذه صفة حميدة، وفّق الله إليها أهل النظم لبركة نيّاتهم في خدمة العلوم الإسلامية كما قال ابن مالك في مقدمة [لاميّة الأفعال]:
فهاك نظماً محيطاً بالمُهِمّ وقد يحوي التفاصيل من يستحضر الجُمَلا
وقال الشبراوي:
إن أنتَ أتقنتَها هانت مسائله عليك من غير تطويل ولا مَلَلِ
ومن محاسن تلك المنظومات أنّها نفيسةُ الأهداف، مليحةُ الأعطافِ، ميسَّرةٌ للحفظ، مُعّلِّلةٌ بالوصل، مُوَطَأة الأكناف، يستطيعها الكبير والصغير، ما إن يردِّدها اللسان وتسمعها الآذان حتى تَعْلَقَ بالأذهان، كما حكى الشيخ حسن البنا رحمه الله في [مذكرات الدعوة والداعية] أنه كان صغيراً لمّا دخل عليهم أحد العلماء، فسأل طُلابَ الفَصْل عن علامة الحرف؟ فلم يُجِبْ أحدٌ منهم. فقام البنا رحمه الله، وكان من أحدثهم سِنّاً فأنشدهُ مِن [مُلحة الإعراب]:
والحرف ما ليستْ له عَلاَمة فقِس على قولي تكن عَلاّمة
قال: فرفع يديه وقال: اللهم اجعلني علاّمة كما قال هذا الغلام!
ومن روائع هذه المتون وبدائعها؛ أنّها ضمّت ألفاظاً أنيقة، وعبارات رشيقة، وجمعت المعاني الطَريفة إلى المباني اللَّطيفة، حتى شُغِف بها الشباب، وكَلِفَ بها الخُطَّاب! واسمع الشاطبي وهو يتكلم عن إدغام ذال (إذ) وإظهارها عند القرّاء كيف يقول:
نعم إذ تمشَّتْ زينبٌ صَالَ دلُّها سَمِيَّ جمالٍ واصلاً من توصَّلا
و واحدةٌ مُذَبْذَبةٌ تردَّتْ لدى أخواتها في حَيْرَتَيْنِ!
ومن محاسن المتون – وما أكثرَهَا وأكرمَهَا! – أنها تزخر بثروة لغوية وبيانية مضمَّنة في تلك الشواهد الشامخة المنيفة، التي لا يستطيعها البَطَلة، فتراهم يستصعبونها لأجل غربتهم عن لغتنا وانبتاتهم عن حضارتنا. وليت شعري هل أضاع العلومَ إلاّ أصحاب المذكّرات من الرويبضات الذين جعلوا المعارف نكرات، كما هو واقع التعليم عندنا، حيث تركوا المنظومات العجيبة، وهجروا المتون المفيدة [وهل أُمَّةٌ في الأرض إلا نحن تغتالُ القصيدة؟!]. وأنّى لك أن تجد بديلاً عن
أهابك إجلالاً ومالك قدرةٌ عليّ ولكن مِلْءُ عينٍ حبيبُها
ولقد جنيتُكَ أَكْمُؤاً و عساقلا ولقد نهيْتُكَ عن بنات الأَوْبَرِ
ومن لنا بأمنيةٍ
كمُنْيةِ جابرٍ إذ قال لَيْتي أصادفه وأُتْلِف جُلَّ مالي
ومتى نلاقي من ينشدنا:
أسِربَ القَطا هل من يُعيرُ جناحه لعلِّي إلى ما قد هَوِِيتُ أطيرُ
وأيّ قطاةٍ لم تُعِرك جناحها تعيش بذُلٍّ والجناحُ كَسِيرُ
فوالله ما أقْفَرَتْ معاهدنا، وما أجْدَبَت مُرابِعُنا حتى صِرْنا إلى هذا الخواء في حياتنا والجفاء في ثقافتنا إلاّ بعد أن غابت متون العلم عن تعليمنا ومناهجنا وتوارت بالحجاب، فحُقَّ لنا أن نمتشق الحسام وننثر السِّهام ذَبًّا عن مواسم الغرام:
ذُمَّ المنازل بعد منزلة اللِّوى والعيش بعد أولئك الأيام
¥
نام کتاب : أرشيف ملتقى أهل الحديث - 5 نویسنده : ملتقى أهل الحديث جلد : 1 صفحه : 109