الشيخ عفا الله
قصة مصرية
بقلم الأستاذ محمود تيمور
حدثني صديقي، قال:
منذ عشرين عاماً كنت أسكن جهة درب سعادة. ذلك الحي القديم ذو الشارع الضيق والمباني المتزاحمة الأثرية. وكنت إذ ذاك في التاسعة عشرة من عمري أحضر لإمتحان الشهادة الثانوية. وفي أوقات فراغي كنت أجلس أمام البوابة أتفرج على الرائح والغادي. وكان يمر أمام الدار (من وقت لآخر) شيخ بملابس بسيطة ضامر الوجه، بلحية خفيفة فيها آثار الشيب ظاهرة. هادئ المشية. يسير في وقار. منكس الرأس على صفارته يناجيها بألحان شجية. فكنت استوقفه وأطلب منه أن يسمعني شيئاً من أنغامه. وكانت جميع ألحانه تحوي كثيرا من معاني اليأس والحنو. ولاحظت أنه قنوع يرضى بالقليل. وكان إذا استرسل في صفيره خيل لك أن الصفارة تتكلم وتنوح كأنها تحاول أن تفشي سراً! وهو على طهارة قلبه ومظاهر الصلاح الناطقة على وجهه، لا يؤدي أي فرض من فروض الصلاة، ولا يذهب إلى الجامع مطلقا! ولا يتكلم عن شيء اسمه مغفرة ورحمة. وإذا ذكر اسم الله أمامه طأطأ رأسه ذليلا، وتمتم بألفاظ متقطعة غير مسموعة!.
وتوثقت بيني وبين الشيخ ألفة ساذجة. وحاولت أن استوضحه حقيقة آلامه فلم يرض أن يبوح لي بشيء. فاحترمت رغبته وصممت أن لا أفاتحه في هذا الموضوع. وظل الرجل وقتا ما لغزاً لا أستطيع الوصول إلى حله. ومرت الأيام والشيخ يزورنا مرة في الأسبوع فأحظى منه بألحان شجية، وحديث هادئ جميل!. وكان يسترسل في الكلام بعض الأحيان فتفلت منه من غير وعي جمل وكلمات بدأت تكشف لي شيئا من سره. وكان ينشد لي كثيراً من المواويل الريفية في الحب والتشبيب بالنساء وكان إذا لفظ كلمة (الغيط) لفظها مفخمة منغمة واتسعت عيناه ولمعت بوميض غريب. واتسع صدره وتمددت طاقتا أنفه وهو يستنشق في شغف الهواء الذي يحسبه هواء الريف. ثم يعقب ذلك تنهد حار عميق، ومناجاة طويلة لصفارته وباغته ذات يوم بقولي:
- اقسم بالله لقد اكتشفت سرك يا شيخ (عفا الله)!