وإن طلبت بلا بحث ولا نظر ... لم تضح منه على إيقانٍ إيناس
وأنبذ مقالة من ينهاك عن نظر ... نبذ الطبيب بذل القرحة الآسي
وهذه ظاهرة فكرية خطيرة يسجلها الشاعر المصري على عصره أعني أوائل القرن الرابع (حول سنة 320 - 340هـ) وهي تدل على أن الجدل العلمي والأدبي كان يرتفع يومئذ الى مرتبة الأيمان والعقيدة وينحدر أحيانا أخرى إلى درك التراشق والمهاترة. كذلك هنالك في قول الشاعر ما يدل على أن بعض المفكرين والأدباء كانوا يؤثرون الصمت على الجهر بآرائهم خيفة الاتهام والوقيعة.
وقد كانت حلقات المسجد الجامع بلا ريب أهم الحلقات الأدبية العامة ولكن هناك في أقوال ابن زولاق ما يدل على أنها كانت تعقد أيضاً في المساجد الأخرى. فمثلا كان الشاعر الأكبر أبو الطيب المتنبي الذي وفد على مصر سنة 346هـ (957م) ليستظل بحماية الأخشيد يجلس في مجلس يعرف بمسجد ابن عمروس وهناك يجتمع إليه الأدباء والشعراء؛ وكانت حلقة المتنبي بلا ريب من أهم مجالس الشعر والأدب والفلسفة في هذا العصر. وأما عن الحلقات والأبهاء الخاصة فيشير ابن زولاق إلى المجالس العلمية والأدبية التي كان يعقدها محمد بن طغج (الإخشيد) وولده انوجور ثم مجالس الوزيرين ابن الفضل جعفر بن الفرات والحسين بن محمد المارداني. والظاهر أن هذه المجالس والحلقات الأدبية كانت يومئذ من تقاليد الحياة الرفيعة وكانت نوعا من الترف الذي يأخذ به الأمراء والعظماء والأسر الكبيرة فان لهم جميعاً على نحو ما بينا في سير الأبهاء الأدبية في تلك العصور أكبر نصيب وذكر، ويرجع إليهم في أقامتها ورعايتها أكبر الفضل.