فأضعُ بينَ يدي القارئِ أُمورًا تُعينُ -بإذن اللهِ تعالَى- علَى إتقانِ الوَقْفِ والابتداءِ في كتابِ الله -عزَّ وجلَّ-.
1 - أن يعرفَ القارئُ تفسيرَ الآياتِ، ويُحيطَ بمعانيها.
ففي قولِهِ تعالَى: ((قالَ إنَّه يقولُ إنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلولٌ تُثيرُ الأرضَ ولا تَسْقِي الْحَرْثَ)) [البقرة: 71]: لا يصِحُّ لَلقارئِ أن يبتدِئَ بقولِهِ: ((تُثيرُ الأرضَ))؛ لأنَّ في الكلامِ نَفْيًا، لا إثباتًا، والمعنَى يُشيرُ إلَى أنَّها لَيْسَتْ مُذلَّلةً بالحراثةِ. ولو ابتدأَ بقولِه: ((تُثيرُ الأرضَ))؛ لكانَ في الكلامِ إثباتُ أنَّها مذلَّلةٌ بالحراثةِ، وفيه قلبٌ للمعنَى، وهو ضعيفٌ. [يُنظَر: تفسير هذه الآيةِ في تفسيرِ ابن كثيرٍ].
وتجدرُ الإشارةُ إلَى أنَّه قد يختلِفُ الوَقفُ والابتداءُ باختلافِ التَّفاسيرِ؛ كما في قولِه -عزَّ وجلَّ-: ((وهُوَ اللهُ في السَّمَاواتِ وفي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وجَهْرَكُمْ ويَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ)) [الأنعام: 3]؛ فإنَّه يجوزُ للقارئِ أن يقفَ علَى (السَّماواتِ)، ويبتدئَ بما بعده، وله أن يقفَ علَى (الأرضِ)، ويبتدئَ بما بعدَهُ، وله أن يصلَ بينَ الجميع، بلا وَقْفٍ؛ وذلك باختلافِ التَّفسيرِ.
2 - أن يكونَ علَى معرفةٍ بالنَّحو، والإعرابِ؛ فيعلم المبتدأ والخبر، والفعل والفاعل، والصِّلة والموصول، والمُضاف والمُضاف إليه، والجارَّ والمجرور، والصِّفة والموصوف، والمُستثنَى والمُستثنَى منه، والشَّرط وجوابه، وما إلَى ذلك مِنَ الأمورِ الَّتي لا يصِحُّ الوقف عليها، دونَ أن تُوصَلَ بما بعدها، ممَّا هو متعلِّق بها من ناحية الإعرابِ. إلاَّ ما كانَ رأسَ آيةٍ؛ فإنَّ الوقف عليه سُنَّةٌ.
ففي قوله -عزَّ من قائلٍ-: ((والَّذينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ من بعدِ ميثاقِهِ ويَقْطَعونَ ما أَمَرَ اللهُ به أن يُوصَلَ ويُفْسِدُونَ في الأرضِ أولئكَ لهُمُ اللَّعْنَةُ ولَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)) [الرعد: 25]: قد لا يتنبَّهُ القارئُ إلَى أنَّ (أولئكَ) هو خبر (الَّذينَ)؛ لطُولِ الفصلِ بينهما.
وفي قولِهِ تعالَى: ((فانطَلَقَا حَتَّى إذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ)) [الكهف: 74]: قد يقفُ بعضُ القُرَّاءِ عند: (فقتَلَهُ)، ثُمَّ يبتدئ: (قالَ أقَتَلْتَ)، مِنْ غيرِ أن يشعُرَ بأنَّه قد فصلَ بينَ الشَّرْطِ وجوابِهِ؛ لأنَّ (فقتَلَهُ) داخِلٌ في حيِّزِ الشَّرْطِ، وليس هُوَ الجواب. وهذا موضعٌ دقيق، قد لا يُتنبَّهُ إليه.
وأيضًا: فإنَّه قد يختلفُ الوقفُ والابتداءُ باختلافِ الإعرابِ؛ ففي قوله -سُبحانه-: ((والَّذِينَ آمَنُوا وعملوا الصَّالحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا أُولئكَ أصحابُ الجنَّةِ هُمْ فيها خالِدونَ)) [الأعراف: 42]: اختُلِفَ في جملة: (لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا)؛ فقيلَ: إنَّها خبرٌ للمبتدإِ (الَّذينَ)؛ أي: لا نكلِّفُ نفسًا منهم إلاَّ وسعَها؛ وعليه: فإنَّه يصحُّ الوَقْفُ علَى (وسعها)، والابتداء بـ: (أولئكَ أصحابُ الجنَّةِ)؛ لأنَّ المعنَى قد تَمَّ. وقيلَ: إنَّ جملة: (لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا) اعتراضيَّةٌ بينَ المبتدإِ: (والَّذينَ آمنوا وعملوا الصَّالحاتِ) وجملة الخبرِ: (أولئكَ أصحابُ الجنَّةِ)، وعلَى هذا الإعرابِ: لا يصحُّ أن يقفَ القارئُ على قولِه: (لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا)، دونَ أن يصِلَهُ بما بعدَهُ؛ لأنَّ المعنَى لا يَتِمُّ عندَه. وهذا الوجهُ الثَّاني أحسنُ؛ كما ذَكَرَ الإمامُ ابنُ القيِّم -رحمه الله- في كتابِهِ «التِّبيان في أقسامِ القرآنِ».
3 - الاطِّلاعُ علَى هذا البابِ في كتبِ التَّجويدِ، وعُلومِ القرآنِ، وفي المصنَّفاتِ الَّتي أُفْرِدَتْ فيه، وهي كثيرةٌ، منها: «إيضاح الوقف والابتداء» لابن الأنباريِّ، و «المُكتفَى في الوقف والابتدا» لأبي عمرو الدَّانيِّ، و «منار الهُدَى في الوقف والابتدا» للأشمونيِّ، و «المقصد لتلخيص ما في المرشد» لزكريَّا الأنصاريِّ.
¥
نام کتاب : ملتقى أهل اللغة نویسنده : مجموعة من المؤلفين جلد : 10 صفحه : 1552