responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : ملتقى أهل اللغة نویسنده : مجموعة من المؤلفين    جلد : 1  صفحه : 1199
لا تمَلَّنَّ طاعةَ الله، لا بَلْ ** طاعةَ الله ما حييتَ استديما
لا يغرنَّكم أُلاءِ من القو ... مِ جُنُوحٌ للسلم، فهو خِداعُ
ربِّ وفقني، فلا أعدلَ عن ... سَننِ الساعينَ في خير سَنَنْ
يابنَ الكرامِ، ألا تدنو، فتبصرَ ما ... قد حدَّثُوكَ، فما راءٍ كمَن سمِعا
حيثُما تستقِم يقدِّرْ لك اللـ ... ـهُ نجاحًا في غابرِ الأزمانِ

أرجو أن تقرأ هذه الأبياتَ قراءةَ متأمِّلٍ، فإن كنتَ من مَّن رزَقه الله طبعًا سليمًا، وفطرةً نقيَّةً، وكنتَ طويلَ المِراسِ للشِّعر القديمِ، كثيرَ النظَر فيه، قادرًا علَى أن تفصِل بينَ صحيحه، وسقِيمِه، وتعزِلَ جيِّدَه من رديئِه، لم يخالجْك الشكُّ في أنَّ هذه الأبياتَ موضوعةٌ مصنوعةٌ، ومزيَّفةٌ مفتعَلةٌ، وأنَّ إلَّها من الشِّعر القديمِ كإلِّ السَّقبِ من رأْلِ النَّعامِ، ولم تخطئ ما فيها من سمَاجةٍ، وبرودةٍ، وثِقَلٍ، وغَثاثةٍ، وأنَّها بشعرِ العلماءِ أشبَهُ، وألصَقُ، وأنَّها إنَّما خرجَت من قريحةٍ واحدةٍ لتقاربِ أساليبِها، وتشاكُلِ ألفاظِها، ومعانيها، وأنَّه ما ينبغِي أن يكونَ واضعُها إلا ابنَ مالكٍ، لأنَّه هو الذي بثَّها في كتبِه، ولم يكن شيءٌ منها معروفًا قبلَه. وقد ذكرَ المؤرِّخونَ أنَّ نظمَ الشِّعر كان سَهْلاً عليه. (ولَيسَ يشكل على أهل العِلم زِيَادَةُ الروَاة، ولا مَا وضعُوا، ولا مَا وضع المولَّدون، وإِنَّمَا عضَّل بهم أَن يَقُول الرجل من أهل البَادِيَة من ولد الشُّعَرَاء، أَو الرجل ليسَ من ولدهم، فيشكل ذَلك بعض الإشْكَال) [طبقات فحول الشعراء لابن سلام 1/ 46].
وقد كانَ العُلَماءُ من البصرِ بالشِّعرِ، والمعرفةِ بضروبِه، وأجناسِه بحيثُ لا يلتبِسُ عليهم عصرُه. وذلكَ لقوَّةِ ملكتِهم، وسلامةِ طِباعِهم. وكانُوا ربَّما ميَّزوا بينَ شِعر الشاعرينِ يكونانِ في عصرٍ واحدٍ. فهذا أبو عبدِ الله بنُ الجرَّاحِ (ت 296 هـ) يَردُّ على رَوح بن عُبادة في قولِه: (كان امرؤ القيس أملكَ من أن يقول شِعرًا. وكلّ شعرٍ يُروى عنه فهو لعَمْر بنِ قميئة) قال: (هذا القول إذا صحَّ عن رَوحٍ لا يخلو من قلَّة فهمٍ منه بما بين نمط شعر امرئ القيس، وشعر عمْر بن قميئة ... أو من عصبيَّةٍ على امرئ القيس لعَمْر) [من اسمُه عَمْر من الشُّعراء 33]. وذلك أن روحًا من قيس بن ثعلبة القومِ الذين منهم عمْر بن قميئة. وهذا أبو الفرجِ الأصفهانيُّ (ت 356 هـ) يقول عن قصيدةٍ منسوبةٍ إلى امرئ القيس: (وأظنها منحولةً لأنها لا تشاكِل كلام امرئ القيس، والتوليد فيها بيِّنٌ، وما دوَّنها في ديوانه أحدٌ من الثقاتِ. وأحسبها من مَّا صنعه دارمٌ لأنه من ولد السموءل) [الأغاني 9/ 3217 دار الشعب]. كما روَى أبو الفرجِ أيضًا أنَّ حمادًا الراويةَ (ت 155 هـ) قالَ للوليدِ بن يزيد: (ثمَّ لا أُنشَد شعرًا قديمًا، ولا محدَثًا إلا ميَّزْتُ القديمَ منه من المحدَث) [الأغاني 6/ 2151]، وروَى أيضًا أن حمادًا الراويةَ قدِمَ على بلالِ بنِ أبي بردة البصرةَ وعند بلالٍ ذو الرمَّةِ، فأنشدَه حمادٌ شعرًا مدحَه به، فقال بلالٌ لذي الرمَّة: كيف ترى هذا الشِّعرَ؟ قال: جيِّدًا، وليس له. قال: فمن يقوله؟ قال: لا أدري، إلا أنه لم يَقلْه. فلما قضَى بلالٌ حوائجَ حمَّادٍ، وأجازَه، قالَ له: إن لي إليكَ حاجةً. قال: هي مقضيَّةٌ. قال: أنت قلتَ ذلك الشِّعرَ؟ قال: لا. قال: فمن يقوله؟ قال: بعضُ شُعَراء الجاهليَّةِ. وهو شعرٌ قديمٌ. وما يرويه غيري. قال: فمن أين علِمَ ذو الرمة أنه ليس من قولك؟ قال: عرَف كلامَ أهل الجاهليةِ من كلامِ أهلِ الإسلامِ. [الأغاني 6/ 2168]، وذكرَ ابن سلامٍ الجمحيُّ (ت 231 هـ) أنَّ خلفًا الأحمرَ (ت 180 هـ) كانَ أفرسَ الناسِ ببيتِ شِعْرٍ [طبقات فحول الشعراء 1/ 23]. وكانَ أبو عَمْر بن العلاء (ت 154 هـ) يقول: (هذا البيت أنا قلته، وألحقته بشعر الأعشَى [يريد:
وأنكرتْني، وما كان الذي نكِرت ... من الحوادثِ إلا الشيبَ، والصَّلَعا]
قالَ: فكنتُ معجبًا به حتى لقِيتُ أعرابيًّا فصيحًا فهِمًا، فأنشدتُّه إياه، فقالَ: أخطأت استُ صاحبِه الحفرةَ! ما الذي يبقَى بعد الشيب، والصَّلَع؟ فعلِمتُ أني لم أصنع شيئًا. قالَ أبو عبيدة (ت 209 هـ): سمِعتُ بشارًا قبلَ ذلك بعشر سنينَ يقول: ما يشبِه هذا شعر الأعشَى) [معجم الأدباء 3/ 1318]. فانظر كيفَ بلغَ من بصرِ بشارٍ بالشِّعر أنِ استطاعَ أن يستخرِجَ بيتًا موضوعًا من بينِ عشراتِ الأبياتِ الصحيحة!
وكذلكَ كلُّ علمٍ، وفنٍّ، فإنك تجِد فيه من أهلِه مَن يقدِر على النظَرِ في أحكامِه على سرعةٍ من الخاطرِ، والبديهةِ بما لا ينقادُ لغيرِه إلا بطولِ البحثِ، والتروِّي، وبمراجعةِ القوانينِ، والأصولِ. وقد كانَ مِن أهلِ الحديثِ مَن يحكم على الحديثِ بالوضعِ بالنظرِ في متنِه. ومِثلُ ذلك في القافةِ، وأهلِ الفِراسةِ، ومَن يعرِفونَ استقامةَ وزنِ الشِّعر، واختلالَه بمجرَّد سماعِه، وغيرِهم. وقد كانَت هذه الملَكة في العصرِ الأوَّلِ متينةً راسِيةً، إذْ كانوا أهلَ فِكرةٍ، واجتهادٍ، فلمَّا جاءَ من بعدَهم، وغلبَ عليهِم التقليدُ، والاتِّباعُ، خمَدت هذه الملكةُ من نفوسِهم إلا قليلاً. ولولا ذلكَ، لكانَ لنا في هذه الحُجَّة مَقنعٌ عن تكلُّفِ الإسهابِ، والتفصيلِ.

يُتبع
¥

نام کتاب : ملتقى أهل اللغة نویسنده : مجموعة من المؤلفين    جلد : 1  صفحه : 1199
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست