نام کتاب : القضايا الكبرى نویسنده : مالك بن نبي جلد : 1 صفحه : 59
ولكن هذا التأويل لا يمدنا بتفسير لما حدث على وجه الدقة، عند الهجرة السكانية التي تمت في بداية الأزمنة التاريخية، عقب ذلك الجفاف الذي اجتاح المناطق المتاخمة للجزائر، فغير شروطها المناخية؛ وصيرها إلى مناطق صحراوية؛ إذ لابدَّ أن يكون قد حدث ضمن هذا الخروج ( exode) شيءٌ ما يظل خارجاً عن متناول التفسير بالتحدّي الطبيعيّ، ما دام جزء من السكان قد بقي بنفس المكان وتكيف مع الشروط الجديدة لحياته، والتحق جزء آخر بأعالي (النّيل) ليجد من جديد شروط حياته القديمة، واتجه جزء واحد من هؤلاء السكان إلى مستنقعات (الدّلتا)، فروّض الطبيعة الجديدة؛ وهكذا ولدت الحضارة المصرية، كنتيجة مترتبة ليس عن الظاهرة الطبيعية وحدها فحسب، ولكن عن اختيار حرّ وقاصد، أعني عن إرادة جماعية وأوّليّة وجَّهت خطى هذا الجزء من (الخروج العام) نحو صقع محدّد.
ونحن لا نفسر آلية هذه الإرادة، ولكننا نقتصر على إثباتها باعتبارها في الوقت ذاته ظاهرة تظل خارجة عن متناول التفسير الطبيعيّ، ومظاهرة تدشينيّة مع ذلك لمجتمع جديد وحضارة جديدة.
ويمكننا أن نستند لدعم وجهة نظرنا على التاريخ اليهودي، الذي يمدّنا فعلاً بمثال لخروج آخر ..
وإن كان هذا الخروج لا يُفَسِّرُ حضارة إسرائيل، إلا في الحد الذي يُفَسَّرُ فيه هو ذاتُه بالعمل الأوّلي (لموسى) الرسول. ويبيّن لنا (الكتابُ المقدَّس) أيَّ صعوبات لاقاها هذا الأخير في كنف شعب حَرونٍ عَنُودٍ من أجل تشكيل إرادته وقيادته قبل هذا الخروج وبعده.
(فموسى) بالذات هو الذي يفتح لنا النافذة المطلَّة على المظهر الآخر من القضية، أعني عندما تُنْهِضُ فكرةُ الخلاص شعباً ما وتشكل إرادته بصورة عامة،
نام کتاب : القضايا الكبرى نویسنده : مالك بن نبي جلد : 1 صفحه : 59