خَامِسًا: بَيْنَ الفَلْسَفَةِ العَقْلِيَّةِ وَالوَضْعِيَّةِ:
كما ادعى الدكتور أن العبارة السابقة فيها تناقض في قولي: «وَاحْتَكَمَ نَفَرٌ إِلَى الفَلْسَفَةِ العَقْلِيَّةِ الوَضْعِيَّةِ ...»، وقال: «إِنَّنِي عَلَى يَقِينٍ أَنَّ الفَلْسَفَةَ العَقْلِيَّةَ تَعْنِي شَيْئًا مُخْتَلِفًا تَمَامًا .. بَلْ وَمُتَعَارِضًا كُلَّ التَّعَارُضِ مَعَ مَا تَعْنِيهِ الفَلْسَفَةُ الوَضْعِيَّةُ، فَالفَلْسَفَةُ العَقْلِيَّةُ تَنْصَبُّ عَلَى قَوَانِينِ العَقْلِ المُجَرَّدَةِ وَاسْتِنْبَاطِ الأَفْكَارِ مِنَ المَبَادِئِ الأَوَّلِيَّةِ، أَوْ المَقُولاَتِ الفِطْرِيَّةِ التِي لَيْسَتْ لَهَا صِلَةٌ بِالعَالَمِ المَادِّيِّ أَوْ مُسْتَمَدَّةً مِنَ التَّجْرِبَةِ الحِسِّيَّةِ ... أَمَّا الفَلْسَفَةُ الوَضْعِيَّةُ، فَإِنَّهَا تَنْصَبُّ أَسَاسًا عَلَى الوَقَائِعِ العَيْنِيَّةِ وَتَسْتَنِدُ فِي الأَصْلِ عَلَى الخِبْرَةِ الحِسِّيَّةِ وَالأَحْدَاثِ التِي تَقَعُ فِي عَالَمِ الطَّبِيعَةِ بِالفِعْلِ ..».
وفيما نقله الدكتور من فوارق بين ما يسمى بالمذهب العقلي أو الفلسفة العقلية والتي نادى بها (ديكارت)، و (سبينوزا)، و (ليبز)، و (هيجل) وبين ما يسمى بالمذهب الوضعي أو الفلسفة الوضعية التي نادى بها (أوجست كونت) ... يجد هو وغيره من الباحثين أن بين الفلسفتين عاملاً مشتركًا هو إبعاد الدين عن مجال الأحكام في الأمور التي لا تخضع للتجارب والخبرة الحسية، ويشمل ذلك الأمور الغيبية، وهذه الأمور لها مصدر واحد هو الوحي المنزل على رسول الله .. قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [2].
أما المذهب الوضعي أو الفلسفة الوضعية فإن كانت تنصب على الوقائع المادية والتجارب الحسية .. إلا أنها تزعم «أَنَّ المَعْرِفَةَ الصَّحِيحَةَ هِيَ المَعْرِفَةُ المَبْنِيَّةُ عَلَى الوَاقِعِ وَالتَّجْرِبَةِ فَقَطْ، وَأَنَّ العُلُومَ التَّجْرِيبِيَّةَ هِيَ التِي تُحَقِّقُ المَثَلَ الأَعْلَى لِلْيَقِينِ» [3]، وترتب على هذا الزعم أن تلاميذ هذه المدرسة من قال: «لاَ أَرَى عَقْلَ الأُسْتَاذِ، فَهُوَ بِغَيْرِ عَقْلٍ»؛ لأن هذا المذهب يقوم على زعم آخر كنتيجة لهذه الفلسفة هو «أَنَّ الفِكْرَ البَشَرِيَّ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَجْتَنِبَ القَطِيعَةَ وَالخَطَأَ إِلاَّ إِذَا اتَّصَلَ بِالتَّجْرِبَةِ وَأَعْرَضَ عَنْ كُلِّ مَا هُوَ قَبْلِيٌّ ..» [4].
فهذه الفلسفة تتعارض مع الأديان في حصرها المعرفة واليقين في العلوم التجريبية، [1] [النساء: 59]. [2] [الحديد: 25].
(3) " المعجم الفلسفي "، جميل صليبا: ص 91. [4] المرجع السابق.
نام کتاب : تهافت العلمانية في الصحافة العربية نویسنده : البهنساوي، سالم علي جلد : 1 صفحه : 59