وفى قوله تعالى: «وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ» ردّ وردع لأولئك الذين يستخفّون بمحارم اللّه، فيهجمون عليها فى غير تحرج ولا تأثم، ويبيتون معها، ويصبحون عليها، دون أن يكون لهم مع أنفسهم حساب أو مراجعة .. وهكذا يقطعون العمر، فى صحبة الفواحش، ظاهرها وباطنها، حتى إذا بلغوا آخر الشوط من الحياة، وأطلّ عليهم الموت، فزعوا وكربوا، وألقوا بهذا الزاد الخبيث من أيديهم، وقالوا: تبنا إلى اللّه، وندمنا على ما فعلنا من ركوب هذه المنكرات!
إنها توبة لم تجىء من قلب مطمئن، وعقل مدرك، يحاسب ويراجع، ويأخذ ويدع، ولكنها توبة اليائس الذي لا يجد أمامه طريقا غير هذا الطريق .. إنه لم يثب وهو فى خيرة من أمره .. فيمسك المنكر أو يدعه، ويقيم على المعصية أو يهجرها .. وإنما هو إذ يتوب فى ساعة الموت، أشبه بالمكره على تلك التوبة، إذ لا وجه أمامه للنجاة غير هذا الوجه .. وقد فعلها فرعون من قبل حين أدركه الغرق، فردّه اللّه سبحانه، ولم يقبل منه صرفا ولا عدلا: «حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ» (90 ـ 91: يونس).
إن إيمان فرعون هنا لم يكن عن اختيار بين الإيمان والكفر .. بل كان لا بدّ له من أن يؤمن حتى ينجو من الغرق، إن الكفر باللّه هو الذي أورده هذا المورد، وإن الإيمان باللّه الذي كفر به من قبل هو الذي يردّه عن هذا المورد ويدفعه عنه .. هكذا فكر وقدّر!!
وشبيه بهؤلاء الذين لا يرجعون إلى اللّه، ولا يذكرونه إلا عند حشرجة الموت، أولئك الّذين يغرقون أنفسهم فى الآثام مادامت تواتيهم الظروف، وتسعفهم الأحوال، حتى إذا سدّت فى وجوههم منافذ الطريق إلى مقارفة الإثم، بسبب أو بأكثر من سبب، تعفّفوا وتابوا .. وتلك توبة العاجز المقهور، ورجعة المهزوم المغلوب على أمره. لا يخالطها شىء من الندم، ولا يقوم عليها سلطان من إرادة ومغالبة .. إنها توبة غير مقبولة. (1)
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (2/ 727)