ونحن نقول كما يقول صاحب كتاب (البنية الإدارية للدولة العباسية): إن وجود الحسبة في العصر البيزنطي لا يعني بالتأكيد إرجاع نظام الحسبة إلى جذور بيزنطية، ويكفي المتتبع للنصوص الشرعية -والتي هي الأصل الشرعي للحسبة، ولكتب التاريخ والسير- أن يعرف أن هذا النظام إسلامي نابع من عقيدة المسلم وشريعته التي تحثه على القيام به في نفسه ومع إخوانه داخل المجتمع الإسلامي؛ ليتم بناؤه على التقوى والصلاح والخير.
ثم إننا نقول: إن المسلمين لم يقتبسوا هذا لنظام من البيزنطيين، فنهضة الحياة الاقتصادية في المجتمع الإسلامي، وتعقيدها، وكثرة الصناع، والغش، والتدليسات التي كانت تصدر من ضعاف الإيمان، ومقاومة الحكومة الإسلامية لهذه النزعة في نفوس مثل هؤلاء المعتدين التي تجعلهم يقومون بما يعود ضرره على المصلحة العامة للمسلمين، كانت كلها من العوامل التي أدت إلى قيام نظام الحسبة في شكله المنظم كولاية إسلامية رسمية.
أما من حيث القيام به كعمل فردي، فهذا كان يقوم به المسلمون منذ نزلت أول آية تأمر وتحث على إقامة المعروف وإنكار المنكر وتغييره.
هذا، وقد يكون الأثر البيزنطي قاصرًا على التأثر في الهيكل التنظيمي للولاية فحسب، وإلا فالرقابة على الأسواق كانت ومنذ تأسيس الدولة الإسلامية في المدينة النبوية؛ فقد استعمل رسول الله -صلى الله عليه وسل م- سعيد بن العاص على سوق مكة، كما استعمل عمر بن الخطاب على سوق المدينة، وولى مرة أخرى عبد الله بن سعيد بن أمية بن العاص على سوق المدينة، وهذا كله قبل اتصال المسلمين بالتراث البيزنطي في البلاد المفتوحة.
كذلك فنظام الحسبة ليس مقصورًا على منكرات الأسواق والمخالفات التي تقع فيها، بل هو شامل لكل أوجه الحياة، وحيث ما ظهر المنكر واندثر المعروف.