نام کتاب : السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث نویسنده : الصلابي، علي محمد جلد : 1 صفحه : 77
والحقيقة تقول: إن محمدًا عليه الصلاة والسلام وهو في غار حراء فوجئ بجبريل أمامه يراه بعينه، وهو يقول له: اقرأ، حتى يتبين أن ظاهرة الوحي ليست أمرا ذاتيًا داخليًا مرده إلى حديث النفس المجرد، وإنما هو استقبال وتلقٍّ لحقيقة خارجية لا علاقة لها بالنفس وداخل الذات، وضم الملك إياه ثم إرساله ثلاث مرات قائلا في كل مرة: اقرأ، يعتبر تأكيدا لهذا التلقي الخارجي ومبالغة في نفي ما قد يتصور، من أن الأمر لا يعدو كونه خيالاً داخليًا فقط.
ولقد أصيب النبي صلى الله عليه وسلم بالرعب والخوف مما سمع ورأى, وأسرع إلى بيته يرجف فؤاده, وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن متشوقا للرسالة التي سيكلف بثقلها وتبليغها للناس, (1)
وقد قال تعالى تأكيدا لهذا المعنى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ - صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلاَ إلى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ) [الشورى: 52 - 53].
وقال تعالى (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. قُل لَّوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) [يونس: 15، 16].
لقد تساقطت آراء المشككين في حقيقة الوحي أمام الحديث الصحيح الذي حدثتنا به السيدة عائشة رضي الله عنها، وقد استمر الوحي بعد ذلك يحمل الدلالة نفسها على حقيقة الوحي، وأنه ليس كما أراد المشككون.
وقد أجمل الدكتور البوطي هذه الدلالة فيما يلي:
1 - التمييز الواضح بين القرآن والحديث، إذ كان يأمر بتسجيل الأول فورًا، وعلى حين يكتفي بأن يستودع الثاني ذاكرة أصحابه؛ لا لأن الحديث كلام من عنده لا علاقة للنبوة به، بل لأن القرآن موحى به إليه بنفس اللفظ والحروف بواسطة جبريل عليه السلام، أما الحديث فمعناه وحي من الله عز وجل، ولكن لفظه وتركيبه من عنده عليه الصلاة والسلام، فكان يحاذر أن يختلط كلام الله عز وجل الذي يتلقاه من جبريل بكلامه هو.
2 - كان النبي صلى الله عليه وسلم يُسأل عن بعض الأمور، فلا يجيب عليها وربما مر على سكوته زمن طويل، حتى تنزل آية من القرآن في شأن سؤاله، وربما تصرف الرسول في بعض الأمور على وجه معين، فتنزلت آيات من القرآن تصرفه عن ذلك الوجه، وربما انطوت على عتب أو لوم له.
3 - كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أميًّا .. وليس من الممكن أن يعلم إنسان بواسطة المكاشفة النفسية حقائق تاريخية، كقصة يوسف عليه السلام, وأم موسى حينما ألقت وليدها في اليم، وقصة
(1) انظر: فقه السيرة النبوية للبوطي، ص64.
نام کتاب : السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث نویسنده : الصلابي، علي محمد جلد : 1 صفحه : 77