فهم يقتطعون هذه الآية من القرآن كله، ليزعموا أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - ما كان يقصد في أول الأمر أن يوجه دعوته إلا إلى أهل مكة وبعض المدن حولها. وأنه إنما تحول من هذا المجال الضيق الذي ما كان خياله يطمح في أول الأمر إلى أوسع منه فتوسع في الجزيرة كلها، ثم همَّ أن يتخطاها .. لمصادفات لم يكن في أول الأمر على علم بها!
وذلك بعد هجرته إلى المدينة، وقيام دولته بها! .. وكذبوا .. ففي القرآن المكي، وفي أوائل الدعوة، قال اللّه سبحانه لرسوله - صلى الله عليه وسلم - «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» ... (الأنبياء:107) .. «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً» ... (سبأ:28) ولعل الدعوة يومذاك كانت محصورة في شعاب مكة يحيط بها الكرب والابتلاء! (1)
والقرآنُ هو الهدى الموصِلُ إلى كلِّ خيرٍ. قال تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [2] سورة البقرة.
والله -عز وجلَّ- يريدُ لكلمته أنْ تنتشرَ، وتصلَ إلى العقولِ والأسماع في كلِّ مكانٍ، ولا يتمُّ ذلك إلا إذا كانتْ سهلةَ الحفظِ والفهمِ، فليسَ في القرآن ما يصعبُ على الناس فهمُه أو العملُ به، قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} (17) سورة القمر.
وهذا هو القرآن حاضرا، سهل التناول، ميسر الإدراك، فيه جاذبية ليقرأ ويتدبر. فيه جاذبية الصدق والبساطة، وموافقة الفطرة، واستجاشة الطبع، لا تنفد عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد. وكلما تدبره القلب عاد منه بزاد جديد. وكلما صحبته النفس زادت له ألفة وبه أنسا. (2)
والقرآنُ معجزةُ الرسول - صلى الله عليه وسلم -،فلو اجتمعتِ الدنيا بأسرِها على أن تأتي َ بمثل ما جاء به في القرآن الكريم لأعجزَهم ذلك، فهو {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (42) سورة فصلت.
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 1579] [2] - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 4282]