نشأت البدع صغاراً ثم صارت كباراً
قال رحمه الله تعالى: [واحذر صغار المحدثات من الأمور؛ فإن صغير البدع يعود حتى يصير كبيراً، وكذلك كل بدعة أحدثت في هذه الأمة كان أولها صغيراً يشبه الحق، فاغتر بذلك من دخل فيها، ثم لم يستطع الخروج منها، فعظمت وصارت ديناً يدان بها، فخالف الصراط المستقيم، فخرج من الإسلام].
هذه أيضاً فائدة عظيمة ينبغي أن يرعاها طلاب العلم ويعوها جيداً، وأن يحذروا من أن تتكرر مثل هذه الغلطات التي وقعت من أهل البدع أو تساهل فيها بعض المنتسبين للعلم، وهو أن صغار البدع والمحدثات طريق إلى الأمور الكبار، أولاً: أن صغار المحدثات إذا تساهل فيها أهل العلم هي طريق إلى الوقوع في الأمور الكبار.
الأمر الثاني: أن كل الفرق التي ظهرت في التاريخ تبدأ بدعها بأمور صغار، أو ببدع محدودة، ثم كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم: (تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه) يعني: تمضي بهم الأهواء كما يمضي المرض الخطير بصاحبه يأخذه رويداً رويداً حتى يهلكه، وقد يبدأ دون أن يشعر به صاحبه أو يشعر به الناس، ثم إذا ظهرت مظاهر المرض ولم تعالج بسرعة، فإنها تفتك بالإنسان حتى يهلك.
ومصداق ذلك واقع في كل الفرق التي أصبحت الآن فرقاً كباراً، فرقت الأمة وأنهكتها ولا تزال تفرق وتتشعب على الأمة إلى يومنا هذا، فالفرق الكبرى أولها الخوارج، ومشكلتهم الأولى في مرتكب الكبيرة، حينما زعموا أن علي بن أبي طالب ومعاوية رضي الله عنهما حكما الرجال، وقالوا: تحكيم الرجال كبيرة أو كفر، وهذا الكفر عندهم مخرج من الملة، فجعلوا الكبيرة كفراً، ثم حكموا على صاحب الكبيرة بأحكام الكافر.
فالخوارج لم يكونوا يتكلمون عن غير هذه المسألة لمدة عقود من السنين، وما بدأت بهم الأهواء الأخرى إلا بعد منتصف القرن الأول الهجري، فقد ظهروا سنة (36هـ أو 37هـ) فظلوا إلى ما بعد سنة (60هـ) وهم لا يعرف عنهم أنهم تكلموا إلا في مسائل محدودات تتعلق بمرتكب الكبيرة، ثم بعد ذلك أصبحوا معطلة؛ لأن قولهم بالحكم على مرتكب الكبيرة بالكفر أدى بهم إلى القول بخلوده في النار، وأدى بهم إلى أن يعتقدوا في المسلمين أنهم من المشركين والكفار، ثم أدى بهم هذا إلى إنكار الشفاعة، ثم أدى بهم هذا إلى إنكار الرؤية، ثم أدى بهم هذا إلى إنكار الصفات، ثم أصبحوا الآن جهمية ومعتزلة.
ثم بعد ذلك يأتي القدرية، فالقدرية جاءت بكلمة واحدة، وهي قولهم: لا قدر والأمر أنف، يعني: لم يقدر الله أفعال العباد، وهي مستأنفة، ليس لها سابق تقدير، ثم تجارت بهم الأهواء حتى صارت القدرية مذاهب، وحتى اندمجت القدرية مع المعطلة المعتزلة اندماجاً كاملاً، ففي القرن الثاني لا تعرف القدرية إلا أنها معتزلة.
وبدأت الجهمية بإنكار الاستواء ثم تكلموا بعد ذلك في مسألة كلام الله عز وجل، ثم جاء الجعد وتكلم في ثلاث مسائل: الاستواء والخلة والتكليم فقط، وجاء بعده الجهم فأعلن إنكار الأسماء، ثم بعد ذلك لم يقف الجهمية على مسألة الأسماء فقالوا بالجبر، وقالوا بالإرجاء الغالي إلى آخره.
وهكذا بقية الفرق، فالأشاعرة على سبيل المثال وهم من المعاصرين، كانت مشكلتهم الأولى في مسألة كلام الله عز وجل؛ وذلك أنهم جعلوا الكلام من لوازم ذات الله عز وجل، وقالوا: بأن الكلام قديم النوع، وليس حادث الآحاد، وقالوا بأن الكلام هو المعنى القائم بالنفس، ولم يزيدوا عن هذا الأمر في عهد الأشعري، ثم تجارت بهم الأهواء حتى أصبحوا في عهد الشهرستاني والجويني والبغدادي والرازي جهمية، والآن أكثر مذاهب الجهمية موجودة في متكلمة الأشاعرة والماتريدية.
فهكذا تنسحب القاعدة حتى في العصور المتأخرة، فكثير من الفرق أو الجماعات أو الأحزاب أو أصحاب الشعارات التي ظهرت الآن صارت أقرب إلى الافتراق، وكانت بداياتهم عن حسن نية، وفي مسائل معدودة خالفوا فيها أهل العلم، ثم تجارت بهم الأهواء، حتى قرروا مناهج ووضعوا لأنفسهم أصولاً وشعارات، وصاروا يوالون عليها ويعادون وهكذا.
فينبغي لطلاب العلم أن يعوا جيداً هذه المسألة، وألا يستهينوا بصغار المسائل والمخالفات لأهل العلم، أما أن يكون في الناس خلاف، أو يوجد خلافات في الأمور الخلافية السائغة فهذا لا حرج فيه، وإنما المشكلة الإصرار على أمر يكون فيه خروج عن المنهج حتى في المسائل الصغار، فمن خرج عن مناهج أهل العلم في وقته، فيخشى أن يكون ممن بذر بذرة الافتراق وهو لا يشعر، وما أظن -والله أعلم- أن أكثر الذين أسسوا الفرق يظنونها تصل إلى هذا المستوى من الافتراق عن السنة، لكن المسألة خرجت عن حد ما أرادوا.