الرد على حاصري الكفر في التكذيب والاستكبار
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإن مما ينافي التوحيد والإيمان الشرك والكفر، وقد سبق الكلام على مباحث الكفر، وأن الكفر ينقسم إلى قسمين: كفر اعتقادي، وكفر عملي، وأن الكفر الاعتقادي بأنواعه الخمسة يخرج من الملة، ويحبط الأعمال، ويخلد صاحبه في النار، ولا يغفره الله إلا بالتوبة منه، نسأل الله العافية.
وأما الكفر العملي فإنه ينقسم إلى قسمين: كفر يخرج من الملة، وكفر لا يخرج من الملة، وقد سبق أن ذكرنا أن بعض الناس يقول: إن الكفر لا يكون إلا بالتكذيب أو الجحود أو الإباء أو الاستكبار فقط، وهذا القول ليس معروفاً عن السلف ولا عن العلماء ولا عن الأئمة، وإنما هو قول للجهمية المرجئة.
وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية الإمام المجتهد رحمه الله تعالى إجماع العلماء أن من قدر على أن ينطق بالشهادتين فلم ينطق فإنه كافر، وهو كافر باطناً وظاهراً عند سلف الأمة وأئمتها وجماهير العلماء.
وذهبت المرجئة إلى أنه لا يكون كافراً في الباطن، بل يكون كافراً في الظاهر، وهذا قول جهمية المرجئة، كـ الجهم والصالحي، فيقال: إن هذا القول قول مبتدع لم يقله أحد من العلماء ولا الأئمة، وإنما هو قول مبتدع قالته الجهمية المرجئة، ومن المعلوم أن التكلم باللسان عمل، فالقول بأن الكفر لا يكون إلا بالتكذيب والجحود، أو بالإباء والاستكبار قول باطل لا وجه له، وإنما هو قول المرجئة الجهمية كـ الجهم بن صفوان والصالحي، فهؤلاء هم الذين يقولون: إن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، بل قال الجهم: إن الإيمان هو معرفة الرب بالقلب، والكفر: هو جهل الرب بالقلب، فلا تضر مع الإيمان معصية، كما أنه لا تنفع مع الكفر طاعة.
وعند المرجئة -أيضاً- أن الإنسان إذا لم ينطق بالشهادتين وهو مصدق في الباطن فإنه يكون مسلماً، وهذا قول باطل كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله، فقد نقل اتفاق وإجماع العلماء على أن من لم ينطق بالشهادتين مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين، وهو عند السلف وجماهير العلماء كافر باطناً وظاهراً، وعند المرجئة كافر ظاهراً لا باطناً، وقال: وهذا قول مبتدع لا أصل له، فينبغي أن يعلم أن هذا القول وهذه الشنشنة التي نسمعها من بعض الناس، وهي أن الكفر لا يكون إلا بالتكذيب والجحود أو الإباء والاستكبار قول باطل، وهو قول المرجئة والجهمية، والصواب أن الكفر يكون بالقول ويكون بالفعل ويكون بالاعتقاد ويكون بالشك، كما في قول الله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} [التوبة:74] أي: كفروا بالحلف، وقال تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66] فأثبت لهم كفراً بعد الإيمان بالاستهزاء، وهو عمل، فالقول بأن الكفر لا يكون بالعمل ولا يكون بالقول وإنما يكون بالجحود فقط قول لم يقله أحد من العلماء، بل إذا قدر على التكلم بالشهادتين ولم يتكلم فهو كافر.
وكذلك من سب نبياً من الأنبياء، أو قتله، أو استهان بالمصحف قاصداً ذلك، أو لطخه بالنجاسة، أو بال عليه، فهو كافر باتفاق العلماء، ولم يخالف في هذا إلا المرجئة، والمرجئة والجهمية لا عبرة بخلافهم، فينبغي أن يعلم أن هذا القول -وهو أن الكفر لا يكون إلا بالجحود والإباء والاستكبار- قول باطل لا أساس له من الصحة، وهو مخالف لاتفاق العلماء ولما قرره الأئمة، ومخالف لما قرره السلف، وإنما نبهت على هذا الأمر لأهميته.