حكاية المناظرة بين شيخ الإسلام ومناوئيه فيما تضمنته العقيدة الواسطية
ثالثاً: المناظرة: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عندما دعي بمرسوم السلطان الذي جاء إلى نائب السلطنة إلى هذا المجلس، واجتمع قضاة المذاهب الأربعة ومع المفتون وأيضاً عدد كبير من أهل العلم، وأملى عليهم شيخ الإسلام رحمه الله في البداية شيئاً من هذه العقيدة، إلا أنه توقف وجاء بهذه العقيدة من منزله، وهم يعلمون أن الكلام الذي يقوله في حال السراء والضراء واحد، وأنه لا يتردد في ذلك، فجيء بهذه العقيدة ونوقش في ثلاث مجالس، كان المجلس الواحد يبتدئ من الضحى ولا ينتهي إلا في منتصف الليل، وكان قوي الحجة رحمه الله تعالى، ومن أراد أن يقف على هذه القصة فيمكن أن يراجع المجلد الثالث من مجموع الفتاوى في صفحة مائة وستين؛ فإنه ذكر مناقشة هؤلاء له بشكل مفصل، ومن ذلك.
يقول بعد المقدمة: [أما بعد: فقد سئلت غير مرة أن أكتب ما حضرني ذكره مما جرى في المجالس الثلاثة المعقودة للمناظرة في أمر الاعتقاد، بمقتضى ما ورد به كتاب السلطان من الديار المصرية إلى نائبه أمير البلاد، لما سعى إليه قومه من الجهمية والاتحادية والرافضية وغيرهم من ذوي الأحقاد، فأمر الأمير بجمع قضاة المذاهب الأربعة وغيرهم من نوابهم والمفتين والمشائخ ممن له حرمة وبه اعتداد، وهم لا يدرون ما قصد بجمعهم في هذا الميعاد، وذلك في يوم الإثنين ثامن رجب المبارك عام خمس وسبعمائة، فقال لي: هذا المجلس عقد لك، فقد ورد مرسوم السلطان بأن أسألك عن اعتقادك وعما كتبت به إلى الديار المصرية من الكتب التي تدعو بها الناس إلى الاعتقاد، وأظنه قال: وأن أجمع القضاة والفقهاء وتتباحثون في ذلك، فقلت: أما الاعتقاد فلا يؤخذ عني، ولا عمن هو أكبر مني، بل يؤخذ عن الله، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، وما أجمع عليه سلف الأمة].
وفي هذا درس عظيم جداً في منهج التعلم، وهو: أن الإنسان في بنائه لعقيدته ولدينه ينبغي أن يعرف أن المصدر الأساسي هو القرآن والسنة وإجماع السلف الأولون، وألا يكون مقلداً في أمور العقائد، وأن يتفهم أحكام الشرع الواردة في القرآن والسنة.
قال: [فما في القرآن وجب اعتقاده، وكذلك ما ثبت في الأحاديث الصحيحة، مثل صحيح البخاري ومسلم إلى غير ذلك].
ثم يقول: [ثم قلت للأمير والحاضرين: أنا أعلم أن أقواماً يكذبون علي كما قد كذبوا علي غير مرة].
وصدق فإن شيخ الإسلام رحمه الله كذب عليه كثيراً، وأنتم تعلمون أن ابن بطوطة صاحب الرحلة المشهورة كذب عليه، فإنه قال: رأيت ابن تيمية في جامع دمشق -يعني: الجامع الأموي- يخطب في الناس، ويقول: إن الله تعالى ينزل من السماء إلى السماء الدنيا -ونزل من المنبر- كنزولي هذا، والعجيب أن ابن بطوطة دخل في تلك السنة التي كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مسجوناً فيها، فهي كذبة صريحة واضحة، فقد كُذب عليه كثيراً حتى أنهم قالوا عنه: إنه كاتب التتر، وأراد مصانعتهم، مع أنه له موقف عظيم جداً من قازان يعرفه كثير من طلاب العلم الذين قرءوا ترجمته رحمه الله.
بل إنه كان من صلاحه كما يذكر هو: أنه تحدث عن قضية الجن والشياطين والاعتقاد السخيف فيهم، ثم قال: إنه في بعض الأحيان قد يوجد من الجن الصالحين من يدعو الإنس إلى الله عز وجل، وذكر قصة وهي: أن أحد أمراء الروم قاتل في معركة، ثم هزم فيها، فهام على وجهه أي: ضل الطريق، وبينما هو في أثناء الطريق إذ جاءه رجل وكان ذلك القائد يكاد أن يموت من الجوع والعطش، فدعاه إلى الله عز وجل، فلما أسلم ونطق الشهادتين أعطاه شيئاً من الأكل والشرب، فلما قال له: من أنت؟ قال: أنا ابن تيمية، يقول: فجاء هذا الأمير وأخبر صاحب ماردين، وصاحب ماردين أخبر صاحب مصر، وكان ابن تيمية رحمه الله في تلك الفترة مسجوناً في سجن الجب في مصر، يقول: فتعجبوا كيف حصل هذا! فقلت: هذا أحد الجن الصالحين كان ينظر إلى طريقتنا في دعوة التتار، وهي: أننا ندعوهم إلى الله عز وجل، فإذا أسلموا أعطيناهم من الأكل والشرب ما نستطيعه، فأعجب بطرقتنا فعملها لهذا الرجل، فقال له بعض أصحابه ممن كان معهم في السجن: لعله ملك، قال: لا، فإن الملك لا يكذب، الشاهد: هو أن هذا الرجل الصالح لما ظهر ذكره، وانتشر خبره، وعرفت منزلته كثر حساده، وكثر أعداؤه.
وإذا الفتى بلغ السماء بمجده جاءت كأعداد النجوم عداه فأصبحوا يكذبون عليه، وقد يكتبون الرسائل في بعض الأحيان باسمه وهي كذب، كما قال رحمه الله: [كما قد كذبوا علي غير مرة].
قال: [وإن أمليت الاعتقاد من حفظي ربما يقولون: كتم بعضه، أو داهن ودارى، فأنا أحضر عقيدة من نحو سبع سنين قبل مجيء التتر إلى الشام] إلى آخر كلامه معهم رحمه الله، وذكر بعض الاعتراضات التي اعترضوا بها على هذه العقيدة بسبب منطلقاتهم العقدية غير الصحيحة، فهو عندما ذم منهج التأويل، قالوا: كيف تذمه، معنى هذا أنك تكفر المتكلمين من أصحابنا، فر