العلاقة بين العبادة والدين
قال المؤلف رحمه الله: [فالدين كله داخل في العبادة، وقد ثبت في الصحيح أن جبريل لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة أعرابي، وسأله عن الإسلام قال: (أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، قال: فما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: فما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه، فإنه يراك)، ثم قال في آخر الحديث: (هذا جبريل جاء يعلمكم دينكم)، فجعل هذا كله من الدين.
والدين يتضمن معنى الخضوع والذل، يقال: دنته فدان، أي: ذللته فذل، ويقال: يدين الله، ويدين لله، أي: يعبد الله ويطيعه ويخضع له، فدين الله: عبادته وطاعته والخضوع له، والعبادة أصل معناها الذل أيضاً، يقال: طريق معبد إذا كان مذللاً قد وطئته الأقدام، لكن العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب، فهي تتضمن غاية الذل لله تعالى بغاية المحبة له، فإن آخر مراتب الحب هو التتيم، وأوله العلاقة؛ لتعلق القلب بالمحبوب، ثم الصبابة لانصباب القلب إليه، ثم الغرام وهو الحب الملازم للقلب، ثم العشق وآخره التتيم يقال: تيم الله، أي: عبد الله، فالمتيم: المعبد لمحبوبه، ومن خضع لإنسان مع بغضه لا يكون عابداً له، ولو أحب شيئاً ولم يخضع له لم يكن عابداً له، كما قد يحب ولده وصديقه، ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله تعالى، بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء، وأن يكون الله أعظم عنده من كل شيء، بل لا يستحق المحبة والذل التام إلا الله، وكل ما أحب لغير الله فمحبة فاسدة، وما عظم بغير أمر الله كان تعظيمه باطلاً، قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:24]، فجنس المحبة تكون لله، ورسوله، والإرضاء لله ورسوله، {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة:62]، والإيتاء لله ورسوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة:59].
وأما العبادة وما يناسبها من التوكل والخوف ونحو ذلك فلا تكون إلا لله وحده، كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64].
وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة:59].
فالإيتاء لله والرسول كقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، وأما الحسب وهو الكافي فهو لله وحده كما قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64]، أي: حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين: الله، ومن ظن أن المعنى: {حَسْبُكَ اللَّهُ} [الأنفال:64]، والمؤمنون معه فقد غلط غلطاً فاحشاً، كما قد بسطناه في غير هذا الموضع وقال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ} [الزمر:36]].
هذا المقطع من كلام المؤلف رحمه الله، فيه فوائد كثيرة جداً، فهي في غاية الدقة وفي غاية الضبط؛ لأن موضوع العبادة موضوع حساس جداً، يترتب عليه أن العبادة إذا جعلت لله عز وجل فهي التوحيد، وإذا جعلت لغيره فهي الشرك والكفر والعياذ بالله.
فمتى يعتبر الأمر عبادة؟ بمعنى: أنه إذا صرف لغير الله فإنه يعتبر شركاً أكبر مخرجاً عن دائرة الإسلام، وهذا هو الضابط الذي سيأتي معنا في كلام المصنف، وهو ضابط عام، وفي كل مثال من أمثلة العبادة هناك ضابط خاص يخصها ويميزها.
بدأ المصنف ببيان العلاقة بين العبادة والدين، وتوصل إلى أن العبادة هي الدين، وأن الدين هو العبادة، وبين ذلك من زاويتين: الزاوية الأولى: الدليل الذي جاء به وهو حديث جبريل الطويل فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام وذكر الأركان الخمسة، وسئل عن الإيمان وذ