الإشراقة والكشف عن الأسرار:
على أن "غوتاما" وإن كان قد عدل عن إماتة نفسه وتعذيبها؛ فإنه لم يعدل عن تفكيره، ومن الواضح: أن الإنسان قد يستطيع فجأة أن يغير أحواله المادية من صوم إلى طعام، ومن تقشف إلى بذخٍ، ولكنه لا يستطيع بسهولة أن يتخلى عن تفكيره وفلسفته، وبينما كان يمشي وحيدًا موحشًا، مال إلى شجرة في غابة "جوريلا" ليتفيأ ظلالها، ريثما يتناول طعامه، ولكن المقام طاب له في ظل هذه الشجرة، ويُقال: إنه أحس برغبة في البقاء تحتها بعض الوقت، فاستجاب لهذه الرغبة، وبقي تحت الشجرة، وفي هذا المكان حدث ما كان يتمناه "غوتاما".
ويقول "غوتاما" واصفًا هذه المرحلة: سمعت صوتًا من داخلي قول بكل جلاء وقوة، نعم في الكون حق أيها الناسك، هنالك حق لا ريب فيه، جاهد نفسك اليوم حتى تناله، فجلست تحت تلك الشجرة في تلك الليلة من شهره الأزهار، وقلت لعقلي وجسدي: اسمعا لا تبرحا هذا المكان حتى أجد ذلك الحق، لينشف الجلد، ولتتقطع العروق، ولتنفصل العظام، وليقف الدم عن الجريان، لن أقوم من مكاني حتى أعرف الحق الذي أنشده فينجيني، وتم له في هذه الجلسة الإشراقة التي كان يترقبها، ويراها بعض الباحثين الغربيين وحيًا، ويصورها بوذا بأنها صوتٌ حادثه وسنروي هذا الحديث عند الكلام عن "النيرفانا".
وهنا ننقل عبارة مولانا محمد عبد السلام الرانبوري، وهي "وكان مستغرقًا تأمله، خائضًا في تفكره إذ أخذه نزعة سماوية فغاب عن نفسه وعن كل ما حوله، وطفق يطرأ عليه حال بعد حال، ويلحقه طور وراء طور، ثم عاد شعوره يتجلى رويدًا رويدًا، فأشرقَ الكون لديه، وأصبح العقل يتجرد عن شوائب المادية فانشرح صدره، ورأى العالم في تكوناته، وتقلباته، ومباديه ومناحيه.