ولنا ما أخرجه البَغَوي في قصة أبي الجُهَيم أنه ردَّ عليَّ السلامَ بعدما مسح بوجهه وذراعيه، وحَسَّنه، ثم اطلعت على إسناده بعد زمان فوجدت فيه راويًا ساقطًا، وهو إبراهيم بن محمد. ولنا أيضًا ما رواه الدَّارقطني عن جابر عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم قال «التيممُ ضربةٌ للوجه، وضربةٌ للذِّرَاعَين إلى المِرْفَقَين». واختُلِف في رَفْعِه وَوَقْفِهِ، قال الدَّارقطني: والصواب أنَّه موقوفٌ. ونقله الزَّيْلعي في تخريج «الهداية»، ولم يَنْقل فيه مَقولة الدارقطني، فكنت فيه مترددًا لأني ما جربت عليه أنه يُخفي شيئًا ويَبْتُر النقل، حتى وجدتُ في «التلخيص»: قال الدَّارقطني: «رجاله ثقات» في الصلب، وفي الهامش. والصواب أنَّه موقوف، فعلِمْتُ أنه نقل ما كان في الصلب وترك ما كان في الهامش، ولم يدخله في الصلب.
وأخرجه الطحاوي أيضًا عن جابر رضي الله عنه قال: أتاه رجلٌ فقال: أصابتني جنابةٌ، وإني تَمَعَّكْتُ في التراب، فقال: أصِرت حمارًا؟ وضرب بيديه إلى الأرض فمسح وجهه، ثم ضرب بيديه إلى الأرض فمسح بيديه إلى المِرْفَقين، وقال: هكذا التيمم. والذي يقع في الخاطر أَنَّه مرفوعٌ ومَن صوَّب وَقْفَه إنَّما حمله على ذلك إرجاعُ الضمير إلى جابر رضي الله عنه. وعندي مَرْجِعُه إِلى النبي صلى الله عليه وسلّم وإنما ينقل جابر رضي الله عنه ما كان جرى بين النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وبين هذا الرجل من القصة [1]، ولنا ما رواه البَزَّار عن عَمَّار في قصة، وفيها: أَمَرَنا فَضَرَبْنا واحدة
= ولكني كنت سمعته من شيخي رحمه الله تعالى في الآية التي في صلاة الخوف حيث تعرض القرآن لصفتها في الركعة الأولى، وأجمل في الثانية، وهي عين موضع الانفصال، فنبه هناك أنَّ الله أبقى لهم فيه مساغًا، ولذا ترك التصريح بعين ما كان ينفصل به الأمر، وهو الركعة الثانية، وسكت عن صفتها. وسيأتي ذكره مفصلًا إن شاء الله تعالى، وإنما أجريت تقريره ههنا من عند نفسي، وأحمد الله ربي على هذا الانتقال أيضًا، ثم إياك وأن تُنْسب إليَّ ما لم أُرِدْه، فإن المذهب عندي كما في الكتب وهو الذي ينبغي عليه العمل للمقلد، وإنما أردت الآن الكلامَ في الشّرع الحاوي للمذاهب الأربعة دون خصوص الجزئيات، وإن عَجَزْتَ أن تفهم حقيقة المراد بعده أيضًا فأنت أعلم اهـ. [1] قلت: ورأيت بعض القاصرين يقول: وكيف يصح إرجاع الضمير إليه - صلى الله عليه وسلم - مع أنه ليس بمذكور في طريق من الطرق؟ قلت: وكأن هذا القائل غافل عن طريق الصحابة رضي الله عنهم، وعن طريق سَنَن الكلام، وليس عنده إلا مسائل هدايةِ النحو، ولا أدري ما الضيق في إرجاع الضمير إلى مَنْ دار ذِكْره فيما بينهم وكان في أذهانهم حاضرًا كلَّ أوان. ثم لبس عند جابر رضي الله عنه صفة التيمم عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على لفظ الدَّارقطني وكأنه أخذها عَمَّا كان في الطحاوي من الواقعة وفي آخره: وهكذا التيمم. ولا ريب في أن الأظهر أنه مرفوع ولذا لما نقل عنه صفة التيمم عند الدارقطني صرَّح بالرَّفْع مع أن سند ما وراء الدارقطني والطحاوي مُتَّحِد. فحديثه المختصر عند الدارقطني من أجَلِّ القرائن على أن ما عند الطحاوي مرفوع، لأن ما يتبادر إلى الذهن أَن الحديث على وجهه كما في الطحاوي، ثم أخذ عنه صفة التيمم واكتفى بروايتها كما قالوا في روايةِ عمار: إن قوله: "إنما يكفيك الوَجْه والكَفَّيْنِ" روايةٌ بالمعنى، وحديثه على وجهه هو الذي فيه الإشارة إنما يكفيك هكذا، والتصرف بِمثله غيرُ نادر في الرواة، كحديث ابن عمر رضي الله عنه: "الوتر ركعة من آخر الليل"، إنما هو منقوض من حديثه الطويل في الوتر: "صلاةُ الليلِ مثنى مَثْنَى"، وفي آخره: "فليوتر بواحدة" وسيجيء تحقيقه، وأما الكلام فيما نحن فيه فلا يحتاج إلى شيء من هذا، فإنه لا ندرة ولا سترة في إرجاع الضمير إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في زمن الصحابة رضي الله عنهم، لكونه حاضرًا بينهم في زمانهم ومكانهم، وإنما الأسف على مَن اعتاد الردَّ وظنه كمالًا اهـ.