يكن عندهم لفظ موضوع لهذا النوع من النَّجَس اضطر الفقهاء إلى التوسيع في هذا اللفظ، فاستعملوه في النَّجَسِ والمُتَنَجِّس أيضًا، وأما أصل اللغة فكما قلنا.
وحينئذ ظهر معنى ما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنه: أن المؤمن لا يَنْجُس حيًا وميتًا. ورَفْعُه معلول، وقد مرَّ عليه الوزير محمد بن إبراهيم [1] فقال: لا يصح إطلاقه على المؤمن لا حقيقة ولا مجازًا، وهذا الفاضل زَيديٌّ، وعندهم أحاديث أهل السنة أيضًا حجةٌ، والحافظ رحمه الله تعالى لما جاء إلى الحج أجازه أيضًا في الحديدة كما ذكره في «الدُّرَر الكامنة».
وقد مرّ أيضًا أن قوله صلى الله عليه وسلّم «إن الماء طَهورٌ لا ينجِّسُه شيء»، حمله الشيخ ابن الهُمَام على الماء الخاص، وأخذ اللام للعهد، وقيَّده الطحاوي بقوله: «كما زعمتم»، كما قَيَّد في سؤر الهرة، وانكشف بهذا التحقيق أنه ليس بنَجَسٍ حال كون النجاسة فيه أيضًا، فإن له صورةَ التطهير بإخراج النجاسة ونَزْحِ البئر، فماء الآبار ليس بنَجَس، ولكنه متنجِّس، إلا أنه لمّا كَثُر في الفقه إطلاق النَّجَس على المتنجِّس غُفِل عن هذا الإطلاق حتى لا يَسبقَ إليه ذهن أحد، وعليه قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}.
واعلم أنَّ في الآية حكمين: الأول: بنجاسة الكافر، والثاني: بحرمة دخولهم في المسجد الحرام. وقد علمتَ مذهب مالك رحمه الله تعالى في الجملة الأولى، وأما في الجملة الثانية فإنَّه قال: إن الكافرَ لا يدخل المسجد الحرام ولا غيرَه، مع أنه ثبت في أحاديث الصحيحين وغيرهما دخولهم في المسجد، ومرّ عليه القاضي أبو بكر بن العربي المالكي وقال: إن تلك الوقائعَ كلَّها قبل عامهم هذا، وإنما النهي فيما بعد عامهم هذا، ثم إن النَّصَ وإن خَصَّصَ المسجد الحرام بالذِّكر لكنه عَمَّم الحكم بالتعليل فقال: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} فالنهي عن دخولهم لكونهم أنجاسًا، فيشمل المساجد كلها ولا يختص بمسجد دون مسجد.
وأما الشافعية، فلم أر عنهم شيئًا في نجاسة المشرك، وصرَّحوا أن الكافر لا يدخل المسجد الحرام، فوافقوا مالكًا رضي الله عنه في الحكم، وخالفوه في التعميم.
وأما الحنفية فإنهم قالوا: إنَّ المشركَ ليس بنَجَسٍ، وله أن يَدخل المسجدَ الحرام وغيرَه، [1] وهو زيدي من القرن الثامن، وكان أخوه الكبير مَلِكًا وهذا وزيرًا له، وكانت السلطنة في آبائه من نحو ألف سنة، والزيدية لا يَسُبُّون الصحابة، وكُتُبُ أهل السنة كلُّها حجة عندهم، غير أنهم يُفَضِّلون عليًا رضي الله عنهم، وكتابهم "المجموع" لزيد بن علي، وهو ابن زين العابدين، وهو راوٍ لبعض أحاديث أبي داود في موضعين أو ثلاثٍ، وعلى تلك "المجموع" حاشية للوزير المذكور، وفيها: أن إطلاق النَّجَس لا يصح على المؤمن لا حقيقة ولا مجازًا، "قلت: ونفي المجاز مُشْكِلٌ، ويُعْلَم من حاشيته أنه رجل دقيق النظر، واستجاز من الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى حين سمع أنه جاء للحج، وسافر له من صنعاء اليمن، فأجازه الحافظ رحمه الله تعالى، وصنف الحافظ رحمه الله تعالى "النُّخبة" وشرحه في السفر. كذا في تقرير الفاضل عبد العزيز.