سبق مني في المقدمة أن أهل قُبَاء، إنما عَمِلوا بخبر الواحد وتركوا قِبلتهم الثابتة بالقاطع لهذا المعنى، لأنه كان عندهم طريق التحقيق والتثبيت، وفي مثله يجوز أن يكون الخبر ناسخًا للقاطع.
والحاصل: أَنَّه لا نزاع في الجزئي القليل الوقوع، وإنما الكلام فيما تواتر فيه الخلاف كالنواقض. ثم لا يذهب عليك أن ابن نُجَيم في باب قضاء الفوائت، وابنَ عابدين في مقدمة «رد المحتار» وسَّعًا سهوًا مُضِرًا، حيث وسَّها للأُمِّيِّ الذي لا يعلم مذهبَ أحدٍ أن يستفتيَ في صلواته الخمسِ أيَّ عالم من علماء المذاهب الأربعة شاء، ويعمل بما شاء من فتاواهم.
أقول: وهذا باطل، فإِنَّ حاصله: أن الأُمِّيِّ ليس له مذهب والقياس على مسألة الاقتداء فاسد، فإِن الاقتداء لا مناص فيه عن المتابعة، بخلاف العمل بالمذاهب فإِن له أن يتقيد بمذهب ويتابعه في مسائله. أما العمل بمذهب الشافعي رحمه الله تعالى في صلاة، وبمذهب الحنفية في صلاة أخرى، فمسلكٌ غيرُ مستقيم، والتزام للتناقض، ولا نظير له في الدِّين.
وتحقيقه: أنَّ المسائلَ من مذهب واحدٍ تكون مُتَّسِقَة، أعني به أنه تكون بينها سلسلة وارتباط في ذهن المجتهد، فإِذا خلط في هذه المسائل، فيعمل تارةً بهذا وأخرى بهذا، يلزم التناقض، وإن لم يَبْدُ في بادىء الرأي، لأنها ربما تبنى على أصول مختلفة يخالف أحدهما الآخر، فإِذا عمل بتلك المسائل كلها ابتلي بالتناقض من حيث لا يدريه، فإِن تلك المسائل وإن لم تكن متناقضة إلا أن الأصول التي تتفرع عليها تلك المسائل تكون متناقضة، فلا يلوح التناقض بين تلك المسائل في بادىء الرأي مع أنه متحقق بعد الإِمعان.
ثم ما في كُتُب الفقه أنّ الرجوع عن التقليد بعد العمل غيرُ جائز، ليس معناه ما فهمه بعض القاصرين أنه لا يجوز كون الشافعي حنفيًا أو بالعكس. وكذا ليس معناه عدم جواز ترك تحقيق بعد سُنُوح تحقيق آخر خلافه، لأنه يجوز التحوُّل من مذهب إمام إلى مذهب إمام آخر إن بدا له ودعته حاجة. وكذا يجوز للمجتهد أن يترك تحقيقه ويختار الجانب الآخر إن رأى فيه الصواب، فإِن الشافعي رحمه الله تعالى كان قائلًا بعدم وجوب الفاتحة على المقتدي في الجهرية، ثم رجع عنه واختار وجوبها قبل وفاته بسنتين. فهذا أيضًا جائز، بل معناه أنه إن اختار تحقيقًا في مسألة ثم عمل عملًا لم يكن صحيحًا على هذا التحقيق، وأراد أن يطلب له صورة الصحة فقال: إني أختار تحقيقًا آخر في تلك المسألة بعينها، تصحيحًا لعمله، فإِنه لا يجوز.
كحنفي صلَّى الظهر، ثم ظهر أن الدَّمَ كان يسيل منه، ومقتضاه أن يفسد طُهره، فأراد أن يُبقيها صحيحة فقال: إني أختار مذهب الشافعي رحمه الله تعالى، فهذا غير جائز.
وما نقل عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه توضأ مرةً وصلى به، ثم لما عَلِمَ أن الماء الذي توضأ منه كانت فيه فأرة، وكان أزيد من القُلَّتين، قال: إني أختار مذهب الشافعي رحمه الله تعالى، فَبَعْدَ تسليم صحته أقول: إنه جواب على أسلوب الحكيم، وليس من باب ترك التحقيق بعد العمل به، وغرضه أنا نحكم بنجاسة الماء عند العلم بها كما هو مذهبه، فلم يكن