أقوله: أمَّا أنا، فلا أقولُ إلاّ بَقْدرِ ما يظهر من عبارته، وأَسْكُتُ عَمَّا سَكَتَ عنه البخاري، لأنه لا يَلْزَم باختياره بعض جزئيات الظاهرية، اختيار جميعها. وأمَّا الشَّارِحُون فيكتفون بالحكم الإِجمالي، فإِذا رأوا أنه وَافَقَ أحدًا في بعض جزئياته، يحكُمُون عليه أنه اختار مذهب فلان، مع أنه مَجْتَهِدٌ في الفقه، فيأخذ ما شاء من مسائلهم، ويترك ما شاء، وليس من لوازم اختيار البعض، اختيار الكل.
ثم اعلم أنه نُسِبَ إلى الظاهرية: طهارة الأبوال والأزبال مطلقًا، غير عَذِرَة الخنزير والكلب والإِنسان، ولم يتحقَّقَ عندي مذهبه، لأنَّ ابن حَزْم لمَّا مرَّ على حديث: «صلُّوا في مَرَابِض الغنم، ذهب إلى أنَّه منسوخٌ، والناسخ: ما وَرَدَ في تطييب المساجد، وهذا يُشْعِرُ بنجاسة أزبالها عنده. كيفما كان، لا أحبُ أن أعزُو إليه مذهب الظاهرية، فإِن شأنه أرفعُ منه عندي، فالذي يظهر من تراجمه: أنه أخذ الأبوال في الإِبل، وترك الأزبال. وسمَّى بالإِبل لحديث العُرَنِييِّن عنده، ثم زاد لفظ الدواب من عنده، وليس عنده دليل عليها من الحديث، فأبهمه، وهو تعميمٌ بعد تخصيصٍ لدفع توهُّم الاقتصار على المنصوص.
والظاهر عندي: أَنَّه أراد منها المركوب من الحيوانات، ثم زاد عليه «الغنم» للحديث عنده فيها، فما كان له دليلًا عنده سمَّاه، وما لم يكن له دليلًا من الحديث أبهمه، ثم إنه لم يُفْصِح بالحكم بأن تلك الأبوال طاهرةٌ أم نجسةٌ؟ لأنه من عاداته أنَّ الأحاديث إذا صَلُحت للطرفين، يُحِيلُ الحكمَ إلى الناظر، ولا يَجْزِم بجانبٍ إلاّ عند حاجة.
قوله: (مَرَابِضها) .. إلخ، دخل في مسألة الأزبال، ولم يُعَيِّن من الحيوانات غير الإِبل والغنم المذكُورَيْن في الحديث.
قوله: (وصلّى أبو مُوسَى)، والمُتَبَادَرُ من هذا الأثر: أنَّه اختار الطهارة.
قوله: (والسِّرْقِين) ... إلخ، يعني أنَّه لو أراد أن يَتَنَحَّى عن السِّرْقِين لوَسِعِه، فإِنَّ الأرض الطاهرة كانت بجنبه، إلاّ إنَّه لم يُبَال به مبالاةً، وزَعَم أنَّ: ههنا وثَمَّ سواء. لا دليل في قوله: «في السِّرِقِين» على أن الصلاة كانت على السِّرْقِين، فإِنَّ الظرفية مُوَسَّعَة. وسيجيء في البخاري: أنَّ البعيرَ كان خارج المسجد، وعَبَّر عنه الراوي أنَّه كان في المسجد.
واعلم: أنَّ بول الإِنسان وعَذِرَته نَجِسٌ بالإِجماع. واختلفوا في أبوال مَأُكُول اللحم وأزبالها.
فذهب أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله تعلى إلى نجاستهما.
واختار مالك رحمه الله تعالى، ومحمد بن الحسن في روايةٍ طهارتهما، وهو مذهب زُفَر. وتمسَّك القائلون بطهارة أبوالها من حديث العُرَنِيِّين، حيثُ أَبَاحَ لهم النبي صلى الله عليه وسلّم شربها فلو كان نَجِسًا لَمَا أمرهم بشربها. وتمسَّكُوا في مسألة الأزبال من إباحته للصلاة في مَرَابِض الغنم.