الاستحباب عند مالك رحمه الله، لأن عُذْر المْعذُور لا يَنْقُضُ طهارته عنده، ولذا تصدَّى بعض المالكية إلى إسقاطه، والله تعالى أعلم.
ثم ههنا خلافٌ آخر، وهو: أنَّ وضوءَ المَعْذُور للصَّلاة أو للوقت؟ فعند الشافعية للصَّلاة، وعندنا للوقت، فالمستحاضة إذا توضَّأت تصلِّي في الوقت ما شاءت من الفرائض والنوافل، ولا تَبْطُل طهارتُه بهذا العُذْر. وتمسَّك الشافعية بلفظ: «لكل صلاةٍ»، فإِنَّه صريحٌ في أنَّ طهارته اعْتُبِرت في حقّ الصلاة خاصةً، وأجاب عنه الحنفية: بتقدير المضاف، ومعناه: لوقت كل صلاة.
قلت: وأخرج العَيْنِي رحمه الله لفظ: «الوقت» عن «المغني» لابن قُدَامة، وإذن لم يَبْقَ هذا تأويلًا مع أنه لا حاجة إليه أيضًا، لأنه شاع في الدُّور الإِسلامية توقيت الأمور بأسامي الصلاة، فتقول: آتيك الظهر، وآتيك العصر، تريد وقته، فقوله: «لكل صلاة» صادقٌ فيما كانت طهارته للوقت أيضًا، ولعلّك فَهِمْتَ أن بين حذف المضاف وبين ما قلنا بَوْن بعيد، والفصل عندي: أَنّ الحديثَ صالحٌ للطرفين، ولا يتعيَّن لأحدٍ منهما.
والمسألة من مراحل الاجتهاد، لأنه لو ثَبَتَ لفظ وقت الصلاة، لم ينفصل منه الأمر أيضًا، لأنه يجري البحث بعده في السبب: هل هو الصلاة أو الوقت؟ ويَسُوغ لهم أن يقولوا: إن اللام للظرف، فوقت الصلاة ظرفٌ للوُضُوء لا سببٌ، وإنما السبب هو الصلاة، كما في قولنا: أتيت فلانًا لخمس مَضَيْنَ من رمضان، فإِن اللام فيه للظرف، لا للسبب، فالوُضُوء يجب على المْعذُور لأجل الصلاة في وقتها عندهم، فصحَّ ما في «المُغْني» «لوقت كل صلاة» على مذهبهم أيضًا، ولذا قلتُ: إن المسألة مفوَّضة إلى الاجتهاد، ولا تدخُلَ تحت النص.
ونظر الإِمام الهُمَام رحمه لله تعالى فيه: أنَّ العِبْرَةَ للوقت دون الصَّلاة، كما أنَّ العِبْرةَ في الجنون والإِغماء أيضًا للوقت، فَمَنْ جنَّ في رمضان بعدما أدرك جزءًا منه، يَلْزَم عليه قضاء رمضان بتمامه. وكذا من أُغْمِي عليه، وأحاط إغماؤه يومًا وليلةً، يسقط عنه قضاؤها، فالجنون والإِغماء عذران اعْتُبِرَ فيهما الوقت أيضًا، إلاّ أنه أخذ في الإِغماء وظيفة اليوم والليلة بتمامها، لأنه فَهِمَ أن بين الصلوات الخمس ربطًا، ولذا قال: إن الترتيب بين الفوائت مستحقٌ، وأخذ في باب الصوم وظيفة الشهر، وأَلْزَم كلَّه بإِدراك بعضه فالشهر في الجنون كالصلوات الخمس في الإِغماء، فمن لم يُدْرِك جزءًا من الشهر، وأحاط به الجنون جميع الشهر، فإِنه لا يَقْضي، كمن أحتاط بِه الإِغماء يومًا وليلةً.
وهكذا في مسألة الرَّجْعَة قالوا: لو انقطع دمها على العشرة، فإِنها تخرج عن عِدَّتها بمجردٍ مُضِيِّ الحَيْضَة الثالثة، وإن انقطع لأقل من العشرة، فإِنها تنتظر قدر الغُسْل، فاعتبروا فيها الوقت أيضًا. والظاهر أَنَّ البحث فيما إذا انقطع الدَّمُ لأقل من العشرة، أنَّ انقطاع حقّ الزوج - وهو الرجعة - يَنُوط بأمرٍ سماويّ - وهو الوقت - أو بفعل اختياري، كغسل المرأة، والذي فَهِمُوه أن إحالته على أمر سماوي أَوْلَى، وهو الوقت، بخلاف الفعل الاختياري، فإِنَّ إبطالَ حقًّ مِنْ فعل أحدٍ غيرُ معقولٍ فلم يَعْتَبِرُوا فيه فِعْلَها - وهو الغُسْل - بخلاف الوقت، فإِنه أمر سَمَاوِيّ، ورَاجِعْ