وقد أجاب عنه الشيخ ابن الهُمَام رحمه الله تعالى [1] أنَّ المرادَ من قوله: «من كُفَّة واحدة» هو الاستعانة بيد واحدةٍ على خِلاف سائر الوضوء، فإِنه يُستعان فيه باليدين. فالراوي لا يريد الفصلَ والوصلَ، بل يريد بيانَ استعمال كفة لا كفتين.
وقال آخر: إنَّه من باب تنازع الفعلين، والذي وَصُحَ لدي: [2] هو أنَّ حديث عبد الله بن زيد واقعة واحدة، وفيها الوصل لما في النسائي: «من ماء واحد» وروى: «غَرفة واحدة» لكن لا لكونه سُنة بل لكون الماء قليلًا. أما كونه واقعة فلما أخرجه البخاري في باب الغسل والوضوء من المِخْضَب يكونُ الغُسْل مرتين أيضًا سُنة لهذا الحديث بعينه، مع أنه لم يقل به أحد.
ثم اعلم [3] ولا تغفل أن هذا من دأبهم أنه إذا تكونُ عندهم واقعةٌ عن النبي صلى الله عليه وسلّم يُضيفونها [1] قال الشيخ رحمه الله تعالى: وأول ما رأيت هذا الشرح في "شرح ابن مَلَك على مشارق الأنوار" لشمس الدين الصغاني وقد جمع أحاديث الصحيحين. وابن مَلَك مقدَّم على ابن الهُمَام رحمه الله تعالى، وله شرح آخر لصاحب "العناية" أيضًا، إلّا أنه ليس فيه إلّا حل الألفاظ؛ كذا في تقرير الفاضل عبد العزيز مما ضبطه من تقريرات الشيخ رحمه الله تعالى. [2] ونص عبارة الشيخ رحمه الله تعالى مما تتعلق بهذا الحديث في موضع آخر هكذا. وأما صفة الوضوء التي أراها عبد الله بن زيد رضي الله تعالى عنه، وفيه ما ظاهرهُ الجمع وهو حديث الباب، فالذي يظهر والله أعلم: أنه أخذها من واقع عينٍ لا عمومَ لها، كما يدلُّ عليه سِيَاق عبد العزيز بن أبي سلمة عند البخاري في باب الغسل من المخضب؛ في أول هذا الحديث: "أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخرجنا له ماءً في توْرٍ من صُفْر، فتوضأ ... الحديث.
ولعل هذه القصة هي التي روتها أم عبد الله بن زيد، وهي أم عُمَارة بنت كعب، اسمها نَسيبة، وزوجها زيد بن عاصم وابناها منه: حبيب وعبد الله كما في "الإِصابة" للحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ فأتي بماء في إناء قَدْر ثُلثي المُد". قال شعبة: حفظ أنه غَسَلَ ذراعيه وجعل يدلكهما ويمسحَ أذنيه باطنهما، ولا أحفظُ أنه مسح ظاهرهما. رواه النَّسائي في "سننه" من طريق حَبيب عن عبَّاد بن تميم، وحَبيب هذا هو حَبيب بن زيد بن خلَّاد كما يظهر من "التهذيب". وخلَّاد جدُّ حبيب هذا لعله ابن عبد الله بن زياد كما يظهرُ من قول ابن سعد في ترجمة عبد الله: بلغني أنه قُتِل بالحرَّة، وقُتل معه ابناه: خلَّاد وعلي، كذا في "التهذيب".
وعبَّاد بن تميم هو ابن أخي عبد الله بن زيد، فحديث عبد الله بن زيد إن شاء الله ليس حكاية عن العادة الكريمة، بل هي حكاية فعل جُزئي يمكن حملُه على التخفيف والجواز، دون الإِكمال والِإتمام كما يُشعر به الاكتفاء بتثنية غَسْلَ الذراعين،، مع أن السنة التثليثُ بالاتفاق، وفي حديث أم عُمَارة إشارةٌ إلى قِلة الماء الموجبة للتجوز في الوضوء.
وُيؤيد ما قلنا من كونه حكاية فعل جُزئِي ما قاله الحافظ رحمه الله تعالى: في رواية مالك عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه: أن رجلًا قال لعبد الله بن زيد: إن تستطيع أن تُريني كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ؟ فقال عبد الله بن زيد: نعم! فدعا بماء ... الحديث، وقال وفي رواية وهيب: فدعا بِتَورٍ من ماء، وفي رواية عبد العزيز بن أبي سلمة: أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخرجنا له ماءً في تور من صُفْر. قال: والتور المذكورُ يُحتمل أن يكون هذا الذي توضأ منه عبد الله بن زيد، إذ سئل عن صفة الوضوء، فيكون أبلغُ في حكاية صورة الحال. انتهى كلامه. [3] بل كان بعضُهم يداومُ عليها مع عدم كونها مسألة. وأعجب أمثلتِهِ ما أخرجه أبو داود عن أنس قال: "كانت لي ذؤابة ففالت لي أمي: لا أجزها كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمدها ويأخذها" ولا يبعدُ أن يكونَ تطبيق ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، وأذان أبي مَحْذُورة رضي الله تعالى عنه من هذا الباب. ويجيء تفصيله في موضعه. والله تعالى أعلم.