ثم اعلم أنهم اختلفوا في معنى النَّهي ما هو، ليُعلَّم أن التفصيلَ في النهي أولى أو الإطلاق. فقال قائل: هو إكرام الملائكة وقيل: حرمة المصلين، وقيل: احترام القِبلة [1]. وأيَّد ابن العربي الثالث بخمسة أوجه ذَكَرها في الشرح مفصَّلة. والظاهر أنَّ المعنى هو احترام القِبلة، لأنَّه نص عليه من جانبه، وقال: لا تستقبلوا القبلة ... إلخ. فذكره بلفظه وأشار إلى أن النهي لأجله، ولذا أباحهما، لأنَّ التغوطَ في هاتين لا ينافي معنى الاحترام، فقد أخذه طردًا وعكسًا وأدار عليه النهيُ والإِباحة كيف والقِبلةُ يوجه إليها عند الصَّلاة، فلا يُستقبل بها عند الغائط؟
ثم إنَّ العيني تمسَّك للمذهب مما أخرجه ابن حِبَّان في «صحيحه» من حديث حذيفة مرفوعًا: «من تفل تُجاه القِبْلة جاء يوم القيامة وتفلُه بين عينيه» وإذا كان حال التَّفْل هذا، فما بال الغائط؟ قلت: وهذا المضمون يوجدُ في عامة الكتُب مقيدًا بقيدِ الصَّلاة وفيه: «فإنَّ ربَّه بينه وبين القِبْلة» فتردد النظرُ فيه أنَّ هذه المعاملةَ دائمةٌ أو تقتصرُ على حال كونِهِ في الصَّلاة فقط؟ واختار أبو عمرو أنَّه مستمر في جميع الأحوال.
ونقله الحافظ رحمه الله تعالى في «الفتح» واعتراه النسيان، لأنَّه يسقط به تفصيل الفيافي والبُنيان، ويبقى النَّهي على إطلاقه كما كان. نعم، لو ثبت أنه مقتصرٌ على حين الصلاة فقط، ولا يستمر في جميع الأحوال - لو هي استدلال العيني رحمه الله تعالى به والوجدان - يحكمُ أنه مستمرٌ، لكنه لا نقل عندي. وليكَن أخر الكلام أني لم أجد في أحدٍ من المرفوع التفصيل الذي ذهب إليه الآخرون، غير ما في هاتين الواقعتين مع ما فيهما وقد علمت حاله.
144 - قوله: (شرِّقوا أو غربوا) واستنبطَ منه الغزالي أنَّ العالم منقسمٌ على الجهات الأربعة، وأنَّ المعتبر في الاستقبال هو الجهة. قلت: مسألةُ [2] استقبالِ الجهة أو العين لا ترجِعُ إلى كثير طائل. ومبناها عندي على العُرف فقط دون الدقائق الهندسية، فإِنهم قالوا: إن المعتبرَ فيمن كان يشاهدُ البيتَ هو العين، ولمن كان بعيدًا منه هو الجهة. ثم قالوا: إنَّ المعتبر في المُسَامتة وصولُ خطٍ خارج من جهة المصلى إلى البيت، فما دام أمكنَ أن يصلَ خطٌ بينه وبين البيت تصح صلاته، وإلا لا. قلت: وهذا في حق البعيد، أمَّا من كان قريبًا فيمكن وصولُ الخطِّ مع الانحراف أيضًا، مع أنَّه لا تجوز صلاته، فَآل الأمرُ إلى العِرفِ. وقد طالعت له أسفارًا وزبرًا. وما قاله المَقْرِيزي فلم أجد المقال يرجع إلى طائلٍ، فالتحقيق أنَّ الاستقبال لا يتوقف على البراهين الهندسية، بل يرجع إلى العُرف. [1] قلت: وقد ظهر اعتبارُه في الطواف عُريانا أيضًا، أعني به أن التعري إذا كان شنيعًا في جميع الأحوال، فإنه عند البيت أشنع، وإذا كان التعري عنده أشنع، كان التخلي إليه أشنع بالأولى، وكأن هذا من مناصباته، والشيءُ، بالشيء يذكر وليس باستدلال. [2] ومن شاء تفصيل المسألة فليرجع إلى رسالة العالم الجليل المولوي محمد يوسف البنوري فإنه قد أتى فيها بما لا مزيد عليه، وهي رسالة عزيزة جدًا.