ومذهب الشافعي ومالك رحمهما الله تعالى كراهتهما في الفيافي دون البنيان، فكأنَّهما فرَّقا في حكم الفيافى والبنيان، ولم يفرقا بين الاستقبال والاستدبار على خلاف ما رُوِيَ عن أحمد رحمه الله تعالى، فإِنَّه فَصَل بين الاستقبال والاستدبار، ورأى أمرهما في الكُنُف والصحارَى سواء، ولم يعرج إلى تفصيل بين الصحراء والبناء. وحجة أبي حنيفة رحمه الله تعالى في هذا الباب: حديث أبي أيوب رضي الله عنه وهو أصرحُ وأصحُّ وأنص وأمس بالمقام.
وحجتهم إجمالًا: حديث ابن عمر رضي الله عنه، وجابر رضي الله عنه عند الترمذي، وحديث عِرَاك عند ابن ماجه. أمَّا حديث ابن عمر رضي الله عنه فلفظه: قال: رقيتُ يومًا على بيت حفصة رضي الله عنها فرأيت النبي صلى الله عليه وسلّم على حاجته مستقبلا لشام مستدبرَ الكعبة. وأما حديث جابر رضي الله عنه فلفظه: قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلّم أن نستقبلَ القِبلة ببول، فرأيته قبل أَنْ يُقبَضَ بعامٍ يستقبلُها. وأما حديث عِرَاك فلفظه على ما رواه ابن ماجه عن خالد الحَذَّاء، عن خالد بن أبي الصَّلْت، عن عِرَاك بن مالك عن عائشة قالت: ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم قوم يكرهون أَنْ يستقبلوا بفروجهم، فقال: «أَرَاهم قد فَعَلوها، استَقْبِلُوا بمقَعَدَتِي القِبْلَة».
وأجابَ الحنفية عن حديث ابن عمر رضي الله عنه وجابر رضي الله عنه أنهما فعلان، والفعل لا يعارضُ القولَ، كما بُسِط في الأصول. قلت: ولا أحبُّ هذا العنوان لأن فِعلَه صلى الله عليه وسلّم أيضًا حجةٌ كقوله، فغيرتُه إلى أنهما حكايتا حالٍ لا عموم لهما. وحديث أبي أيوب نصٌ في الباب، وتشريعٌ في المسألة، وحكمٌ على وصفٍ معلومٍ منضبط. وهذه الأحاديث لم يُعلم سببُها بعدُ، فكيف يُترك ما هو معلومُ السبب بما جُهِل سببه؟ وكيف يُهدر الناطق بالساكت.
ثم نظمت هذا الجواب وقلت:
*يا مَنْ يُؤَمّل أن تكو ... ن له سمات قَبُوله
*خذ بالأصول ومن نصو ... ص نَبِيِّهِ ورَسُولِه
*نصًا على سبب أتى ... بالساكت المجهوله
*دَعْ ما يفوتك وجهه ... بالبَيِّنِ المنقوله
*وخُذِ الكلام بغَوره ... لا عَرضِه أو طُولِه
*ليس الوقائع في شرا ... ئعه كمثل أُصُوله
*لِتَطَرُّقِ الأعذارِ في ... فعلٍ خلافِ أُصُولِه
وحاصله: أن ما رآه ابن عمر ورواه لا يُدرى أنه كان لنسخ النهي به أو لتخصيصِهِ بالبُنيان، أو لعذرٍ اقتضاه المكان، أو كان بيانًا للنهي أنه ليس للتحريم. مع أنَّ نظَرَهُ في هذا الحال لا يمكِنُ أَنْ يكون محققًا، بل لا بد أن يكونَ ارتجالًا. ومن يجترىءُ على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فَينْظُرَه في هذا الحال إلا أن يكون ساهيًا أو خاطئًا.
وهو عند الطحاوي أيضًا أنَّه رآه محجوبًا عليه بِلَبِنٍ، فحينئذٍ كثُر ما يمكن أن يكون رأى منه صلى الله عليه وسلّم وهو في هذا الحال، رأسه الشريف فقط، مع أن العبرة فيه للعضو دون الصدر، فأمكن أن يكون منحرفًا بعضوه ومستقبلًا بوجهه وصدره، ثم لو سلمناه فما الدليل على أن استقبالَه صلى الله عليه وسلّم