قطعيًا، لكن تكون هناك شرائطَ وموانعَ معتبرة عنده، فيجيءُ واحدٌ من الأشقياء ولا يُراعي تلك الشرائط والموانع ويجعلُ الكلامَ المرسل كليًا. ثم إذا تخلَّف عنده الحكم يضطربُ ويقلقُ، فلا يلومن إلا نفسه.
ولما كان حالُ الإنسان بين طرفي نقيض فقد يتداوى بدواء ويكون عندَه أنه نافعٌ قطعًا فلم ينفعه، فإنه لا يكذبُ نفسه، ولا يلزمُ الطبيب، ولكنه يعللُ تارة بأن الدواء كان رديئًا، أو لم يستعمله على وجهه، أو عدم حمايتِهِ نفسَه عن المضرات. ولكنه إذا مر على آية من آيات الله أو حديث من أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلّم ويبدو له فيه قلقٌ، فإنه لا يتعللُ بشيء ولا يطمئنُ قلبه بحال حتى يكونَ أولَ كافرٍ به. {قُتِلَ الإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ} [عبس: 17] فلا يخلو حالُهُ إلا من حُمق جلي، أو نفاق خفي.
والجواب الآخر: أن الشارع ذكر الخواص على طريق «التذكرة» دون «القرابادين» والتذكرة في مصطلح الطِّب: ما تذكر فيها خواص المفردات. والقرابادين: ما تذكر فيها خواص المُرَكبات. فحكمُهُ على العبادات وذكر خواصِّها على طور التذكرة فقط، ولا يمكنُ غيره في الدنيا، فإن التركيبَ لا يحصلُ إلا بعد انصرام العالم، فحكمه أيضًا لا يظهر إلا هناك. وهذا كالطبيب يحكمُ على المفردات أن هذا سُمٌّ، وهذا تِرْيَاقٌ، وهذا مُسهِّلٌ، وهذا قَابِضٌ، ثم إذا ركَّب دواءً من الأشياء الحارة والباردة معًا وكسر هذا سورة هذا، يخرج من بينها مزاجٌ ثالثٌ مع وجود الدواء الحار والبارد فيه ولا يأتي فيه قال وقيل، ولا يكذبُهُ أحدٌ لأنه ما كان ذكر من حرارته وبرودته إنما كان حاله بانفراده، فإذا مزج أحدهما بالآخر خرج منه مزاج آخر.
وهكذا كلمة التوحيد فإنها تحرِّم النارَ بلا مِرية ولا فرية، إلا أنها إذا خالطتها المعاصي ماذا يصير مزاجه، فالله أعلم به. نعم، إن غلبت آثار الكلمة على المعاصي جرَّته إلى الجنة، وإن كان غير ذلك فالعياذ بالله. وإذا علمت أن المزاجَ المركبَ لا يحصلُ إلا في الآخرة، علمت أن مطالبةَ «القرابادين» في الحالة الراهنة جهلٌ وسَفَهٌ، وكأنه استخبارٌ عن أمرٍ لم يوجد بعد ومآلهُ الاطلاع على التقدير. وكذا المنعُ من بيان «التذكرة» أيضًا حمقٌ وغَبَاوةٌ، فإن في عدم الذكرِ مطلقًا ضررُ الأمة، فإنه وإن لم يحصل عندها بالتذكرة العلمُ التام لكنه لم يبق مجهولًا مطلقًا أيضًا وحصل نحو من العلم.
فإن قلتَ: ففي ذكر «التذكرة» بعض حرج وإشكالات. قلت: لا إشكالَ فيها للفطرة السليمة والجاهل بمعزل عن النظر، وبمثله ينحل حديث الكفارات. فإن الصلاةَ إلى الصلاة مثلًا لما صارت كفارةً ولم يبق له ذنبٌ، فماذا تصنع المكفرِّات الأُخر. وحله: أن مجموعَ المكفرات دخيلة في مجموع المعاصي، ولا يحصل هذا المجموع إلا في الآخرة. ولكن الشارع لما أراد الاطلاع على قطعة قطعة، جاء التعبيرُ كما ترى.
قوله من كان آخر كلامه وليس المرادُ من الكلمة ههنا ما كانت على طريق العقيدة، بل هي عملٌ من الأعمال الصالحة وحسنةٌ من حسناته، أجرُها عند الرحيل هو النجاة، فهذه فضيلةٌ لمن