وإذا كانت صلاته في تلك الليلة هكذا، سرى فيه تفنن العبارات. فذكر بعضهم السنَّة بعد العشاء، وحذف ثمان ركعات من صلاة ليله، ثم ذكر ركعات الوتر مع قِطعةٍ من صلاة ليله، ثم ذكر ركعتي الفجر كما هو عند أبي داود عن سعيد بن جُبير عن ابن عباس قال: بتُ في بيت خالتي ميمونة بنت الحارث فصلى النبي صلى الله عليه وسلّم العشاء، ثم جاء فصلى أربعًا ثم نام - وهذا قريب من الصريح في أنها كانت سنة بعد العشاء، لأنه صلاها قبل النوم وبعد العشاء - ثم قام يُصلي فقمت عن يساره، فأدارني فأقامني عن يمينه، فصلى خمسًا ثم نام - وهذه الخمسة من صلاة ليله، وسقط عنه ذكر الثمانية ههنا - ثم قام فصلى ركعتين ثم خرج فصلى الغَدَاة. وهذا صريح في أن الركعتين كانتا سنة الفجر، لأنه فَصَلهما عن الخمس وذكرهما عند الخروج إلى الفرض.
والدليل على أن ذكر الثمانية سقط من الراوي ما عنده عن سعيد بن جُبير عن ابن عباس من طريق آخر: أنه قال: قام فصلى ركعتين ركعتين حتى صلى ثماني ركعات، ثم أوتر بخمس لم يجلس بينهن - وبقي في هذا الطريق ذكر ثنتي الفجر - وأيضًا عنده في تلك القصة أنه صلى ركعتين خفيفتين ثم سلم، ثم صلى حتى صلى إحدى عشرة ركعة بالوتر ثم نام - فذكر فيه مجموع عدد صلاة الليل بدون الفصل بين الثمانية والخمس. وقد علمت حال الاختلاف في بيان العدد المجموع بين إحدى عشرة وثلاث عشرة - فأتاه بلال فقال: الصلاة يا رسول الله، فقام فركع ركعتين ثم صلى للناس، وهذا أصرح في أنهما كانتا سنة الفجر لا غير - فيذكر الراوي تارة صلاته قِطعةً قِطعةً لأنها كانت في الخارج كذلك، وتارة يُعطى العدد المجموع لداعية له، وأخرى قد يتعرض إلى ركعتي الفجر وقد يحذفها. وإذا تبينتَ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم صلى الثمانية في سلسلةٍ وفصل بين هذه القِطعة وقطعة أخرى بعدها لم يبعدُ حذفها من العبارة أَيضًا. ثم إذا لم يحصل له الفراغ عن صلاة ليله إلا بعد الخمس، تعرض إلى بيانه وقال: أوتر بخمس ثم فرغ عن صلاته، يعني تمت صلاته على هذا العدد ولم يتجاوزه.
وعبر عنه بقوله: لم يجلس بينهن، أي جلوس الفراغ، لأنه كان بصدد حكاية ما رأى من كيفية صلاته صلى الله عليه وسلّم ولم يره جالسًا جلوس الفارغ إلا بعد الخمس، فرواه كما رأى، وليس هو بصدد بيان ركعات الوتر فقط أو الجلسات بينهما، وإنما أراد أن يحكيَ عن صورة صِلاته في تلك الليلة. وكان ذهب لذلك فكأنه أراد التصوير على اصطلاح علماء المعاني، ولم يكن منه بدٌ أن يذكرَ تلك القطعات كذلك. إلا أن بعض الرواةِ لما ذكرها إجمالًا ذكر العدد المجموع فقط، وبعضهم زاد ونقص حسب ما سنح لهم عند روايتهم.
ثم إن الدليل على أن الوترَ من تلك الخمس كانت هي الثلاث: ما أخرجه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنه في تلك القِصة بعينها وفيه: ثم فعل ذلك ثلاث مراتٍ ستَّ ركعات، كل ذلك يَستاكُ ويتوضأ ويقرأ هؤلاء الآيات، ثم أوتر بثلاث.
وأشار الحافظ رحمه الله تعالى إلى تفرُّدٍ فيه. قلت: لا تفردَ فيه، بل له متابعاتٌ شتى أخرجها الطحاوي عن قيس بن سليمان، عن كريب مولى ابن عباس: أن عبد الله بن عباس