الطحاوي [1] أن المرادَ من الكافرِ هو الحربيُّ دون الذمي، بقرينة قوله: «ولا ذو عهد في عهد» [1] قال الطحاوي في "معاني الآثار" بعدما أخرج حديث علي رضي الله تعالى عنه من لفظ "ولا ذو عهد في عهده": أن الذي فيه من نفي قتل المؤمن بالكافر هو قوله: "لا يقتل مؤمنٌ بكافر، ولا ذو عَهْدٍ في عهده" فاستحال أن يكون معناه على ما حمل إليه أهل المقالة الأولى، لأنه لو كان معناه على ما ذكروا لكان ذلك لحنًا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبعدُ الناسِ من ذلك، ولكان لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذي عهد في عهده، فلما لم يكن نَقطٌ كذلك وإنما هو ولا ذو عَهد في عهده، علمنا بذلك أن ذا العهد هو المعني بالقصاص، فصار ذلك كقوله: لا يقتل مؤمن ولا ذو عهد في عهده بكافر.
وقد علمنا أن ذا العهد كافرٌ، فدل ذلك أن الكافر الذي منع النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقتل به المؤمن في هذا الحديث هو الكافرُ الذي لا عهد له، فهذا مما لا اختلاف فيه بين المؤمنين، أن المؤمنَ لا يقتلُ بالكافر الحربي، وأن ذا العهدِ الكافر الذي قد صار له ذمة لا يقتلُ به أيضًا. وقد نجد مثل هذا كثيرًا في القرآن، قال الله سبحانه وتعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] فكان معنى ذلك: واللائي يئسن من المحيض واللائي لم يحضن إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر، فقدم وأخر.
ثم أجاب الطحاوي عن كون الجملة "ولا ذو عهد" ... إلخ مستأنفة وقال: إن هذا الحديث إنما أجري في الدماء المسفوكِ بعضها ببعض، لأنه قال: "المسلمون يد على من سِوَاهم، دماؤُهم، ويسعى بذمتِهم أدناهم". ثم قال: "لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده" فإنما أجرى الكلام على الدماء التي تؤخذ قصاصًا ولم يجر على حرمة دمٍ بعهد، فيُحمل الحديث على ذلك. ثم نُقل مِثْله عن علي رضي الله عنه وهو أعلم بمعنى الحديث، ثم أتى بنظر يُؤيده وقال: إن الحربيَّ دمُه حلال وماله حلال، فإذا صار ذميًا حَرُم دمه وماله، كحرمة دم المسلم وماله، ولذا يجبُ القطع بسرقةِ ماله كما في سرقة مال المسلم، فإذا كانت العقوبة في انتهاكِ حرمة ماله كالعقوبة في انتهاكِ حُرْمة مال المسلم، كان دمُه أجرى أن يكون عليه في انتهاك حرمته من العقوبة ما يكون عليه في انتهاك حرمة دم المسلم.
والنظر الثاني أنهم أجمعوا أن ذميًا لو قتل ذميًا ثم أسلم القاتل أنه يقتلُ بالذمي الذي قتَله في حال كفره ولا يُبطِلُ ذلك إسلامه، فلما رأينا الإسلام الطارىء على القتل لا يُبطِلُ القتلَ الذي في حال الكفر، كذلك الإِسلامُ المتقدمُ لا يدفعُ عنه القَوَد، وقال أهل المدينة: إن المسلم إذا قتلَ الذميَّ قَتلَ غِيلة على ماله أنه يقتل به، فإذا كان هذا عندهم خارجًا من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقتل مسلم بكافر" فما تنكرون على مخالفكم أن يكون كذلك الذمي المحايد خارجًا من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -. انتهى مختصرًا. ثم إن الطحاوي قد تكلم عليه في "مشكل الآثار" أيضًا وهو أوضح مما ذكره في "معاني الآثار"، قال الطحاوي في "مشكل الآثار": ثم تأملنا ذلك فوجدنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولا ذو عهد في عهده" لا يخلو من أحد وجهين أن يكون معطوفًا على ما قبله كما ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه فيه. أو على كلام مستأنف، بمعنى: ولا يقتل ذو عهد جائز قتله بمن يقتله قَوَدًا به وكان في ذلك ما قد دل أنه لم يكن قوله: "ولا ذو عهد في عهده" على نفي القتل عنه، لأن ذلك لو كان كذلك لما وجب أن يقتلَ على حال من الأحوال، والظاهرُ يوجبُ أن لا يقتلَ بحال من الأحوال ما كان في عهده. ولما وجب أن يقتلَ في عهد بحال من الأحوال لعله أيضًا سهو من الناسخ عَقَلنا بذلك أن المراد بأن لا يقتل في عهده، إنا هو بأن لا يقتلَ بمعنى خاص، ولا خاصٌ في هذا غير الكافر الحربي، لأنه عطف عليه، فصار المرادُ بأن لا يقتلَ أي بما لا يقتل به المؤمن المذكور قبله في هذا الحديث، وعاد قوله: "لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده" إلى أن لا يقتل مؤمن ولا ذو عهد في عهده بكافر غير ذي عهد وذو العهد كافر، فدل ذلك أن الكافرَ المراد في هذا الحديث هو الكافرَ غير ذي العهد، وأن قوله - صلى الله عليه وسلم - الذي ذكرناه على التقديم والتأخير، بمعنى: لو قال لا يقتل مؤمن ولا ذو عهد في عهده بكافر. ثم نقل نحوه عن عمر رضي الله عنه. عمله. انتهى.
وكانت النسخة مملوءة من سهو النَّساخ فأتيتُ بعبارته مع إشارات إلى التصحيح وبعد عبارته غير مفصحة.