فنشأ منه جهلٌ آخر للنصارى، فإنهم استدلوا به على عمومِ بعثة عيسى عليه السلام، وقالوا: إنها لو لم تكن عامة لما بعث الحواريين إلى الأطراف، ولم يعلموا أن الدعوة إلى التوحيد لا تختص بنبي دون نبي، بل تجوزُ لهم الدعوةُ إلى الشريعة أيضًا إذا لم يكن فيهم نبيٌ. فأهل المدينة لم يكن لهم نبيٌ إذ ذاك وكانوا من بني إسرائيل، وهو رسولٌ إلى بني إسرائيل بنص القرآن، فلو كان دعاهم إلى شريعتِهِ لما كان فيه بأسٌ أيضًا، ولكنهم لم تبلغ إليهم دعوته.
وإذا كان أمرُهم ذلك، فالمسألة فيهم عندي أنه لو كان أحد منهم على دينٍ سماوي من قبلُ كعبد الله بن سلام، فإنه كان على اليهودية، ولم تشملهم دعوة عيسى عليه السلام بخصوصها، ينبغي أن يكون ناجيًا. نعم، لو كان في الشام لما احتاج إلى خصوص الدعوة وكفته دعوة عامة، وهذا لم تبلغه الدعوةُ ولم يكن من سكان الشام وكان على دينٍ حقٍ فيكون ناجيًا، لأنه لم يلتزم شريعة عيسى عليه السلام لعدم المطالبة من جهته لا للإباء منه. نعم، يخرج عن هذا الاستحقاق من كانت دعوتُهُ بلغت إليه ثم ردها. أما إذا كان قومُهُ يدعى في الشام وهذا كان غافلًا عن دعوته لعدم علمه، فإنه بعد الإيمان بالنبي يستحق الأجر مرتين إن شاء الله تعالى وكفاه التصديق إجمالًا.
ويتضحُ ذلك كل الاتضاح بعد البحث في معنى عموم، البعثة فاعلم: أن النبي صلى الله عليه وسلّم مبعوثٌ إلى كافة الناس بلا خلاف. ثم قيل: إن إبراهيم ونوحًا عليهما السلام أيضًا كذلك، فإنه يقال لنوح: إنه أولُ نبيَ صلى الله عليه وسلّم في الأرض. فتصدى العلماءُ لجوابه، لأن البعثةَ العامة قد عُدَّت من خصائصه صلى الله عليه وسلّم وتوجه إليه الحافظ رحمه الله تعالى في «الفتح» والسيوطي رحمه الله تعالى في «حاشية النسائي» ولكنهما لم يذكرا وجهًا قويًا.
والذي ظهر لي: أن بِعثة الأنبياء كلهم عامة في حق التوحيد كما صرح به ابن دقيقٍ العيد، بمعنى أنه يجوز لهم أن يدعو إليه من شاؤوا سواء كانوا مبعوثين إليهم أم لا. ويجبُ على القوم إجابة دعوتهم ولا يسعُ لهم الإنكار بحال، فإن أنكروا استحقوا النار.
بقي أنه ماذا معيار بلوغ الدعوة وأنه هل يُشترط التبليغ إلى كل نفس أو مصر على رؤس الأشهاد؟ أو كفى له التبليغ إلى من حَضَرَه، فذلك مما لا علم لنا به. وإذًا فالتعبيرُ الأوفى أن يقال: إن مَنْ تحقق التبليغُ فيهم بأي نحو كان فإنه يُعَدُّ كافرًا بالجحود، سواء كان ذلك النبي بُعث إليهم أم لا. ثم إن كانوا متعبدين بشريعة سماوية من قبل لا يجبُ عليهم الدخول في شريعته. ما لم تبلغهم الدعوة إلى الشريعة أيضًا، فإن بَلَغتْ وجب التعبدُ بها أيضًا، ويحمل ذلك على نسخ شريعة المدعو له، فإن لم تكن عندهم شريعة سماوية من قبل، وجبَ عليهم الدخول في شريعته بدون دعوة إليها، هذا فيمن بلغت إليهم دعوة نبي بخصوصها.
وأما الذين لم تبلغ إليهم الدعوة بخصوصها، ولكن بلغ إليهم خبر ذلك النبي كسائر الأخبار تحمل من بلد إلى بلد، يجب عليهم الإيمان به أيضًا، فإن آمنوا به نَجوا وإن أبَوا هلكوا، وتكون معاملتهُم مع ذلك النبي كمعاملتنا مع سائر الأنبياء عليه الصَّلاة والسَّلام، أعني التصديق فقط. ولا يجبُ عليهم التعبدُ بشريعته بمجرد بلوغ خبره إذا كانوا على شريعة نبي من