إذا علمت هذا فاعلم أن مسائلَ الدِّيانات كلها يُفتي بها المُفتي ولا يحكم بها القاضي، وهكذا مسائل القضاء، يَحكم بِهَا القاضي ولا عَلاقةَ بها للمُفتِي، فإن الدِّيانة والقضاءَ قد يتناقضان حكمًا، أي يكون حُكم الدِّيانة نقيض ما في القضاء. وقد صرحوا أنه لا يجوز لأحدِهِما أن يحكمَ بحكمِ الآخر، والمُفْتُونَ اليوم غافلون عنه، فإن أكثرهم يفتونَ بأحكامِ القضاء.
ووجه الابتلاء فيه: أن المذكور في كتب الفقه عامةً هو مسائل القضاء، وقَلَّما تُذكرُ فيها مسائلُ الدِّيانة. نعم، تذكر تلك في المبسوطات، ولا تُنَال إلا بعد تدرُّبٍ تامٍ، ولعل وجهته أن القاضي في السلطنة العثمانية لم يكن ينصبُ إلا حنفيًا، بخلاف المفتيين فإنهم كانوا من المذاهب الأربعة، وكان القاضي الحنفي يُنَفِّذُ ما أفتُوا به، فشرع المُفْتُونَ تحرير حكم القضاء لينفِّذ القاضي، فاشتهرت مسائل القضاء في الكتب، وخملت مسائل الديانة، ثم لا يجبُ أن تتفقَ الديانة والقضاء في الحكم بل قد يختلفان.
ففي «الكنز»: إن ولدتِ ذكرًا فأنت طالقٌ واحدة، وإن ولدتِ أُنثى فثنتين، فولدتهُما ولم يُدرَ الأول تَطلقُ واحدةً قضاءً. وثِنتين تنزهًا، أي ديانة. فههنا أخذ القاضي بالجانب المتيقن والمُفتي بالأحوط. ولو قال في هذه المسألة بعينها: إن ولدتِ أُنثى فثلاثة، فولدتهُما، فهي ثلاثةٌ دِيانةً وواحدةٌ قضاءً، فاختلفَ الحكمان حِلًا وحُرْمةً. ثم الأحوطُ ههنا واجبٌ كما صرحوا به، لا أنه مُستحبٌ، وهكذا الإقالة في الغرر الفعلي واجبةٌ عندنا دِيانة وليست بمستحبة. فظهر أن الدِّيانةَ لا تكونُ مستحبةً كما زعم أن العمل بالقضاء يكون واجِبًا، وبالديانةِ يكون مستحبًا، فليس الفرقُ بينهما من هذه الوجوه.
ثم لي ترددٌ ههنا وهو أنك قد علمتَ أن الديانةَ والقضاء قد يتخالفان حِلًا وحُرمةً، فإن عَمِلَ الرجلُ المُبتلى به بالديانة وكانت الديانةُ فيه مثلًا أنه حرامٌ، ثم رَفَعهُ إلى القاضي فحكم بالحل، فهل يرتفعُ من قضائه تلك الديانة أم لا؟ وهل يصيرُ هذا الأمرُ حلالًا له بقضاء القاضي بعد ما كان حرامًا له؟ فلا نَقْل فيه عندي غيرُ جُزئيةٍ واحدةٍ تُروى عن صاحبيه وهي: أن الزوجَ الشافعيُ إن طلق امرأته الحنفية طلاقًا كِنائيًا، ثم أراد الرجوع لأن الكنايات رواجعُ في مذهبه، وأبت أن ترجع إليه لأنها بوائنُ عندها، فإن حكم القاضي الشافعي بالرجوع نفذَ ظاهرًا وباطنًا، ويصح رجوعه. وليست عندي ضابطةٌ كليةٌ يُستفاد منها أنه متى ترتفع الديانة من القضاء ومتى لا ترتفع.
ولذا أترددُ في ارتفاع الكراهةِ ديانةً فيما حَكَمَ القاضي بالرجوع في الهبة عند ارتفاع الموانعِ السبعة، لأن القضاء بالرجوعِ مع بقاءِ الكراهة ديانةً أيضًا ممكنٌ، ولكني مترددٌ فيه. والذي يظهر أنه يرتفع تارةً، وتارةً لا يرتفع.
وأول ما تنهبتُ على الفرقِ بين القضاء والديانة من كلام التَّفْتَازاني في «التلويح» لما ذكرَ صاحب «التوضيح» مسألة الاستعارة بين السببِ والحكم في باب الحقيقة والمجاز، وقال: لو نوى بالشراء الملك وبالعكس يُصدَّقُ فيما عليه ولا يصدق فيما له. قال التفتازاني: وفيما له